مجلة البعث الأسبوعية

القمة الروسية الأفريقية.. مسمار آخر في نعش الهيمنة الغربية

البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة

لم يكن من الممكن عقد القمة الروسية الأفريقية في وقت أنسب من حيث التوقيت في هذه المرحلة من العلاقات الدولية، فعلى الرغم من الخطورة المرتبطة بهذا التغيير في الوقت الحاضر، يرمز هذا الحدث إلى تغيير جذري  يبشر في النهاية بمستقبل أفضل للبشرية.

وسط الحرب المروعة التي أججها حلف شمال الأطلسي بالوكالة في أوكرانيا مع روسيا، حضر قادة ما يقرب من 50 دولة أفريقية المنتدى الذي استمر يومين في سان بطرسبرغ واستضافه الرئيس الروسي بوتين.

في الواقع، على الرغم من مواصلة الصراع في أوكرانيا منذ أكثر من 500 يوم، وخطر الخروج عن نطاق السيطرة إلى حرب عالمية شاملة بين الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة من جهة وروسيا من الجهة الأخرى، فقد رفضت واشنطن وحلفاؤها في الناتو أي محاولة لإنهاء الحرب الدموية بالوسائل الدبلوماسية، وردت على الأصوات الأفريقية التي تطالب بالتوصل إلى تسوية سلمية، كالمعتاد، بالغطرسة والتجاهل.

بالإضافة إلى ذلك، تصَعد القوى الغربية العنف بشكل متهور، من خلال تحريض نظام كييف الذي سيطر على أوكرانيا عبر انقلاب مدعوم من وكالة الاستخبارات المركزية عام 2014، فضلاً عن تقديم الالتزامات لزيادة عدد الجنود في صراع انتحاري.

 

من الواضح أن هذه الحرب ألحقت الضرر في الإمدادات الغذائية العالمية، ورفعت أسعارها، الأمر الذي التي أثر على سكان أفريقيا البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة بلا رحمة، حيث تعد روسيا أكبر مورد للقمح والحبوب الأخرى في العالم، وتمثل نحو 20 في المائة من الإجمالي، بينما تمثل أوكرانيا نحو 7 في المائة.

بالطبع، أثرت الحرب بشدة على الإمدادات والأسعار العالمية، لكن لا بد من التساؤل من الذي بدأ هذا الصراع ولصالح من استمراره؟ ليبدو الجواب واضحاً بأن الولايات المتحدة وما يسمى بالتحالف الأمني الناتو يتحملان المسؤولية الكاملة.

وفي خطابه أثناء قمة سان بطرسبرغ، أكد الرئيس بوتين على الدور الذي تلعبه هذه القوى للتأثير على الإمدادات والأسعار العالمية قائلاً: “من ناحية، تعيق الدول الغربية إمدادات الحبوب والأسمدة، بينما تلومنا نفاقاً من ناحية أخرى على الوضع الحالي للأزمة في سوق الغذاء العالمي”.

وللإشارة، كانت روسيا قد انسحبت في 17 تموز الماضي من صفقة حبوب للأمم المتحدة مع أوكرانيا والتي تم التوصل إليها العام الماضي، حيث كان من المفترض أن تضمن هذه الصفقة شحن الصادرات الزراعية الأوكرانية عبر البحر الأسود مقابل إنهاء العقوبات الغربية الأحادية غير القانونية التي تم فرضها على الصادرات الروسية، لكن الجانب الغربي  كعادته لم يلتزم بوعوده.

من الجدير بالذكر، ألغت روسيا اتفاقية الحبوب على أثر قصف نظام كييف جسر كيرتش الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم للمرة الثانية في 17 تموز الفائت، فكان الهجوم المميت على الجسر الذي أسفر عن مقتل مدنيين روسيين بمثابة القشة الأخيرة لموسكو، بالإضافة إلى استغلال ترتيبات الشحن من خلال عدم احترام الالتزامات المتعلقة برفع العقوبات على روسيا، وكذلك بسبب الأدلة على أن الشحنات الأوكرانية قد استخدمت أيضاً لشحن أسلحة الناتو سراً، مثل الطائرات بدون طيار التي شاركت في غارة جسر كيرتش.

على الرغم من العقوبات الاقتصادية الغربية، تمكنت روسيا من تصدير أكثر من 11 مليون طن من القمح وحبوب أخرى إلى الدول الأفريقية العام الماضي.

وخلال القمة أكد الرئيس الروسي أن هذا الإمداد من المواد الغذائية الأساسية سيستمر في الأسواق الأفريقية، مضيفاً أنه سيتم تصدير كميات إضافية كبيرة من الحبوب مجاناً إلى العديد من الدول الإفريقية المعرضة بشدة لخطر انعدام الأمن الغذائي.

وكان موضوع السيادة الغذائية على رأس جدول أعمال القمة، حيث تعهدت روسيا بضمان إمداد إفريقيا بالحبوب بغض النظر عن النقص في الصادرات الأوكرانية.

وتُظهر بيانات الأمم المتحدة أن أكثر من 80 % من الحبوب الأوكرانية المصدرة بموجب الصفقة التي انتهى العمل بها الآن ذهبت إلى الدول المرتفعة والمتوسطة الدخل، بينما تلقت إفريقيا والدول الأخرى منخفضة الدخل أقل من 3 % فقط من الصادرات الزراعية الأوكرانية. لقد عملت القوى الغربية على “أنسنة” صفقة الحبوب، بالرغم من أن المستفيدين الحقيقيين كانوا حفنة من الدول الغنية، بالإضافة إلى نظام كييف الذي كان يشن هجمات إرهابية على البنية التحتية المدنية.

تدرك الدول الأفريقية بالإضافة إلى العديد من الدول الأخرى في الجنوب العالمي ما يدور حوله الصراع الأوكراني حقاً، إذ يتعلق الأمر فعلياً بالولايات المتحدة ومجموعة من القوى الغربية التي تحاول دعم هيمنتها المتراجعة. لذا ينعكس ذلك في تبني الدول الأفريقية لموقف مختلف عن الأمم المتحدة بشأن الصراع، حيث رفضت القارة، كما هو الحال مع مناطق أخرى من جنوب الكرة الأرضية، الجهود الغربية لجرهم إلى الركب بهدف عزل روسيا على غرار الحرب الباردة.

تاريخياً أيضاً، استفادت إفريقيا من دعم روسيا للاستقلال عن السيطرة الغربية الاستعمارية والاستعمار الجديد، لذا نجد الكثير من النوايا الحسنة والتضامن المتبقي مع روسيا.

من الواضح، أن دعوة موسكو لبناء علاقات دولية متعددة الأقطاب، وتقديم الاحترام الحقيقي للسيادة الوطنية لاقت صدى عميق لدى الدول الأفريقية.

وفي هذا الصدد، قال رئيس الاتحاد الأفريقي غزالي العثماني، إن القارة تقدر بشدة تضامن روسيا والتزامها بالاستقلال الكامل والسيادة.

كما أشار بوتين إلى أن السيادة ليست إنجازاً لمرة واحدة، بل هي وضع مستمر يحتاج إلى التعزيز المستمر والدفاع عنه والتأكيد عليه، مشيراً ضمنياً إلى حقيقة تاريخية مفادها أنه على الرغم من تحقيق العديد من الدول الأفريقية استقلالاً سياسياً عن القوى الاستعمارية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، لكن هذه القوى استمرت في إعاقة تنميتها من خلال مختلف الوسائل الخبيثة للسيطرة الاستعمارية الجديدة على التمويل والتجارة.

من المؤكد، إن الإمكانات الهائلة لإفريقيا كقوة عالمية لم تتحقق بعد إلى حد كبير بسبب الإرث الاستعماري المستمر، وهذا وحده يعتبر إدانة مخزية وفضح لادعاءات الغرب المفلسة بالفضيلة. ومع ذلك، فإن العالم يتغير بسرعة حيث تتراجع الهيمنة الغربية، وبهذا يمكن للدول الأفريقية أن تتطلع إلى إمكانيات جديدة للتنمية الهائلة.

من الواضح، إن الحضور القوي للدول الأفريقية في قمة سان بطرسبرغ ما هو إلا دليل على الرغبة والتصميم لبناء عالم جديد متعدد الأقطاب، حيث تظهر فيه إفريقيا بنجاح وبدون قيود، بعد أن تحدت القوى الغربية التي عملت جاهدة للضغط على القارة لمقاطعة القمة، لكن تلك الحيل القديمة القذرة فشلت في وقف مد التاريخ.

من خلال الشراكة الصحيحة لعالم متعدد الأقطاب، ستشكل الثروة الطبيعية لأفريقيا أداة جوهرية لتنمية شعوبها، وليس لإثراء القوى الغربية التي سلبت القارة وأخضعتها لقرون.

بات واضحاً أن  القضية الأساسية هي السيادة الوطنية والسيادة الغذائية، والتي يمكن تحقيقها دون الاعتماد على القوى الغربية أو حيل وكيلها في كييف فيما يخص الصادرات الغذائية، كما هو الحال بالنسبة لصادرات الطاقة الروسية، فليس هناك حاجة إلى “وسيط” أوكراني يسرق الجميع.

إلى جانب ذلك، أصبحت الصورة أكثر وضوحاً، فالإمكانات الزراعية لأفريقيا، في حال أُحسن استغلالها بشكل صحيح يمكن أن تصبح القارة مصدراً قوياً للغذاء لبقية العالم وليس لدولها فحسب، والعقبة الوحيدة أمام هذا المستقبل هي القيود السياسية والاقتصادية التعسفية للنخبة الغربية على الدول الأخرى، لكن هذه الامتيازات والضوابط النخبوية على أمم بأكملها عفا عليها الزمن مثل شرور أخرى كالعبودية والاستغلال.

إن احتضان إفريقيا الأخوي لتلك الرؤية هو حق عميق ومسمار آخر في نعش الهيمنة الغربية المحتضرة.