أقـل مـا يـقـال.. اكتشاف الذات
البعث الأسبوعية” ــ حسن النابلسي
لعل أحد أسباب التقدم العلمي وانعكاساته على جميع مناحي وصعد الحياة في الدول المتقدمة هو الربط ما بين التعليم وسوق العمل حيث يحدد كل طالب مذ كان على مقاعد دراسته الأولى ماذا يريد بالتفصيل، وذلك بناء على قدراته ومهاراته الشخصية التي تبين مدى نجاحه في كيفية الوصول إلى مبتغاه عبر مراحل منطقية ومدروسة تحدد مسار دراسته ومجال تخصصه بدقة، لا أن يحدد هدفاً عاماً وفضفاضاً يمضي سنوات طوال يدور في فضائه لا يعرف أين يستقر به المطاف، كما هو حاصل عند معظم طلابنا، فطالب الطب في كندا – على سبيل المثال – لا يكتفي بدراسة طب العيون، بل يتعداه بالتخصص ببؤبؤ العين، وكذلك الأمر بالنسبة لرجل الاقتصاد الذي لا يكتفي بالتخصص في مجال المصارف والتأمين، وإنما يتخصص بالتسليفات أو الإيداعات وغير ذلك من مفاصل العمل المصرفي.
لقد أثبتت التجربة أن التخصص بجزيئات أي مجال مبني بالأساس على الرغبة الحقيقية بانتهاجه يصقل الخبرة التي ينتج عنها الإبداع في تطوير العمل، سواء العلمي منه أو الاقتصادي، لا أن تتحكم علامات الطالب بمستقبله الدراسي والمهني بغض النظر عن مدى قدراته ورغبته الحقيقية وبالتالي تحول دون متابعته لأدق تفاصيل اختصاصه، أو يمتهن الإنسان مهنة تتوافق مع رغبات وطموحات أهله ومجتمعه.
ما يفتقده طلابنا حقيقة هو اكتشاف ذاتهم والمهارات التي يتمتعون بها، حيث يصلون إلى مرحلة متقدمة من العمر لا يعرفون أين هم سائرون وماذا يريدون، فكثير من مبدعينا تم وأد إبداعهم لأنهم آثروا إرضاء غيرهم على إرضاء ذاتهم، فاختار من كان عليه أن يدرس الرياضيات ويبدع فيها دراسة الطب، لأن الأخير هو الاختصاص الأعلى بنظر المجتمع، وفضل من يمتلك الحس الفني دراسة الهندسة بدلا من الفنون الجميلة للسبب ذاته، لتكون النتيجة الطبيعية أن يتخرج الأول كطبيب عادي عوضا عن رياضي عبقري، وأن يكون الثاني مهندسا إداريا عوضا عن فنان عالمي يمثل بلده في المحافل الفنية العالمية.
فلنساعد أبنائنا باكتشاف ذاتهم وصقل مهاراتهم ولو كان ذلك على حساب أن يتركوا مقاعد الدراسة والتوجه نحو المهنة التي يرغبون، فالنجار المحترف والمبدع –وهذا ليس تقليلا من قيمة هذه المهنة أو غيرها – أفضل بكثير من الطبيب الفاشل أو المحامي سيء الصيت.