مطاردة الفراشات.. وكأن عصا الساحرة لمست رأسي حينها!!
“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين
كان الركض وراء الفراشات يشكل نسغ الطفولة الجميل في حياتنا جميعاً، وأيضاً ملاحقة تفاصيل النمل الدؤوب المجتهد وهو يحمل حبات القمح من “بيت المونة” ومخازن منازلنا، وكأنه شريك كامل الحقوق فيما نملك من خيرات هذه الأرض، حتى أن بعض بوابات مملكته قد تكون مفتوحة في طرف جدار غرفة من غرف منازلنا.. أن تعلموا أني شريك لك في هذه الأرض وفي أوكسجينها وترابها.
ذات يوم ربيعي مشمس، خرجت للحقول المجاورة للطريق الدولي حلب – دمشق الذي يعبر من مدينتي، سراقب، في الطرف الشرقي منها، وكان مطلوبا منا لحصة العلوم العملية أن ندرس حياة مخلوق ما وتوثيق دورة حياته ونشاطه ورسمه على الكراسة.. و”يا محلاها!!” العلامات لو تمكنت من الإمساك به وإحضاره حياً للمثول أمام الأستاذ..
على طاولة البحث والتمحيص، وجدت، ولأول مرة، دهشة التأمل للمخلوقات المفصلية الصغيرة – وكأن عصا الساحرة الخاصة بالحكايات لمست رأسي حينها – فتفتحت عيناي من الدهشة، وتفتحت ذائقتي البكر على الحكاية والعلوم والمعرفة. أذكر جيداً أنني وجدت سرباً من “الأسروع ذي الأشواك” يمشي الهوينى بشكل صف مرتب ومتناسق وكأنه مقطورات لقطار حيّ طويل، ويتموج شكل الأشواك بطريقة منتظمة هبوطاً وصعوداً بشكل مثير للدهشة، وأنا أتتبعهم بخطواتي وبنظراتي المتفاجئة من هذه المخلوقات الجارة لي، ورحت ألاحقها بخطوات قصيرة حتى وصلت للدهشة الأكبر!! حيث وجدت أكمة من نبات صغير كالشجيرات القزمة، ووسطه كتلة ضخمة من النسيج الحريري الأبيض، ولها مدخل صغير على شكل بوابة، منسوجة بعناية، تدخلها تلك الأسروعات، حتى انتهى آخر أسروع من الدخول، وران صمت بيني وبين تلك المملكة..
رجعت للبيت، ورسمت سرب الأسروعات، وما زالت ملامح تلك اللوحة البسيطة عالقة في مخيلتي حتى اللحظة، وكتبت تلك المعلومة في كراسة درس العلوم، لأنقلها لأستاذي في اليوم التالي، وقد شرح لنا – أنا وزملائي – أطوار الفراشة بطريقة علمية جذابة رسخت في عقلي بشكل قوي.. كانت تلك الحادثة مفتاح دخولي السحري لعالم الحشرات والتمعن فيه وبمعلوماته الغنية وتفاصيل الممالك الخاصة به، فكانت أول سلسلة – كتبت سيناريو لها ورسمتها – أبطالها مجموعة من الحشرات، وحتى هذه اللحظات ما زالت الحشرات الصغيرة تثير دهشتي كما الأطفال، واستمد من خصائصها ومعلوماتها العلمية عن حياتها وطقوسها أجمل الحكايات.
تحدي المبدعين
في الرسوم المتحركة، نشأت علاقة وجدانية بين مبدعي تلك الأعمال والأطفال من خلال التصدي كل حين لقصص عن الحشرات؛ ولنذكر مثلاً أن باكورة أعمال شركة بيكسار للأفلام الثلاثية الأبعاد مع مؤسسة ديزني كان فيلم “حياة حشرة” الذي نقل مستوى التحدي بين شركات إنتاج الرسوم المتحركة إلى مستوى إبداعي آخر متقدم، فانهالت الأعمال التي تتصدى لتلك المخلوقات الصغيرة وحيواتها.
هذا يجعلنا نذكر أعمالاً خالدة في وجدان المتعلقين بالرسوم المتحركة، مثل العمل الرائع “النحلة مايا”، أو ما تم تعريبه لاسم “زينة ونحول”، المقتبس عن كتاب قصص كان إحدى بنات أفكار الأديب الألماني فالديمار بونسلس، نشره في عام 1912. ففي الثلاثين من عمره، قرر بونسلس أن يحكي لأطفاله مغامرات تربوية بهدف توجيههم بطريقة غير مباشرة لجملة قضايا أخلاقية وتربوية، فاخترع شخصية نحلة صغيرة اسمها مايا – زينة في نسختنا العربية – وجعل لها مغامرة صغيرة أن طارت من خليتها – التي شعرت بأنها ضاقت بها – نحو العالم الفسيح بغية اكتشافه والعيش فيه بحرية، فلحق بها صديقها الكسول نحول، وهناك واجهت مغامرات شاركها فيها الجندب الأخضر المثقف “فرفور”، وراحت تتعلم في كل حكاية قيمة جديدة عن التعاون والحب والخير والتضحية وحب المعرفة والتعليم، حتى قررت العودة إلى الخلية لتشارك آنستها سلمى، وأصدقاءها الصغار، تلكم المعلومات والمغامرات.
ذاك العمل الذي ما زال ساري المفعول لدى الأطفال، جيلاً بعد جيل، حتى وقتنا الحالي، يدل بشكل جليّ على قيمة حب المعرفة والدهشة الخلّاقة التي يولدها التماس مع عالم الحشرات وخفاياه لدى الأطفال في كل العصور؛ وقد تم إصدار مجموعة من الحلقات الجديدة بتقنية ثلاثية البعد لتزيد جمال الحالة، وتعلق الأطفال بشكل أكبر بالبطلة المشاكسة “زينة”، الراغبة في التزود من العلم والمعرفة في كل مغامرة تخوضها؛ ولك أن تذكر قائمة طويلة من أعمال إبداعية أبطالها حشرات صغيرة يمكن إسقاط كل القيم التربوية والتعليمية للأطفال من خلالها، كالتعاون والتنظيم والتضحية والبطولة والجمال.
حكاية طائر أبو الحناء السوري
كانت هناك امرأة تكد في العمل في منزلها لتنظيفه وترتيبه، ولها طفل صغير يحبو خلفها ويحاول العبث بكل ما يصادفه في محاولة منه للاستكشاف والتعلم عن طريق اللمس، فكانت تتمنى لو أن لها من يعيلها في إلهاء الصغير، والعناية به، ريثما تنهي أعمال المنزل، فتمنت من الله أن يساعدها بأن يرسل لها من يساعدها في رعاية الصغير؛ وفجأة نظرت إلى طرف الشباك فرأت طائر أبو الحناء السوري يتقافز أمام النافذة.. مدت يدها بهدوء فقفز الطائر نحو يديها بدلاً من الابتعاد والهرب، فنظرت نظرة شكر للسماء، وعرفت أن هذا الطائر الصغير جاءها هدية من الله، فوضعته داخل جونية من قش، وراح العصفور يتقافز والصغير ينظر نظرة دهشة وتوجس نحو الطائر، وما لبثت نظرته تلك أن انقلبت سعادة ومرح، وراح يطارد العصفور داخل الجونية بأصابعه محاولاً الإمساك به، ومرت لحظات طويلة أنهت المرأة أعمال منزلها، ولم تعد تسمع أصوات المرح الصادرة عن صغيرها.. أطلت نحو غرفته لتجده وقد نام بطمأنينة داخل الجونية، وطائر أبو الحن الصغير يتقافز حوله بحبور.. حملت طائر أبو الحن، وقبلته من منقاره وشكرته بامتنان وأطلقته في الفضاء.
بالعودة إلى قصصنا السورية، فإن الغنى والتنوع البيئي الذي تكتنفه هذه الأرض يزخر بالمواضيع الجميلة والممتعة الخام التي يمكن الاستناد عليها في بناء قصص متنوعة وغنية بالمضامين لأطفالنا، وتكون لصيقة بهم وبذائقتهم، لأنها مستمدة من مفرداتهم وبيئتهم التي يعيشون فيها، فتكون أسهل في اختراق الوعي لديهم والتأثير الفعال في وجدانهم.
ليس الحشرات فقط، بل النباتات والأزاهير والحيوانات والطيور، كلها، بطلة وقادرة على أن تحمل الحكاية لمصاف الأدب العالمي رفيع المستوى.
لا عذر لأي كاتب للأطفال من نقص الموارد الأولية للخيال، فحيثما أطلقت النظر في هذه البيئات السورية ستجد مكامن جمال وإبداع وخيال تقول: أنا هنا.
ملحوظة صغيرة في آخر الكلام: المرأة في حكاية طائر أبو الحناء السوري كانت والدتي، والطفل الصغير كان أنا.