مجلة البعث الأسبوعية

المغرب.. سقوط حزب العدالة والتنمية مسمار أخير في نعش الإخوانية السياسية

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

عند إطلاق الشرارة الأولى لما يسمى “الربيع العربي”، من قبل الغرب وحلفائه وأدواته في الداخل، استغل الإخوان المسلمون في البلاد العربية الاحتجاجات، وساروا في مقدمة المظاهرات رافعين شعارات طنانة وخادعة تدعو إلى “التغيير والديمقراطية والحرية”، بينما كان هدفهم الأول والأخير الوصول إلى الحكم وممارسة السلطة التكفيرية. وبالفعل، استطاعوا الوصول إلى رأس السلطة في مصر وتونس والمغرب، لكن الأمر لم يدم طويلا، حيث تمت الإطاحة بالرئيس المصري الاخواني محمد مرسي على يد المجلس العسكري المصري بعد عام فقط من توليه الرئاسة. وفي تونس أصبحت حركة النهضة الاخوانية حزبا سياسيا في البلاد، وأصبح رئيسها، راشد الغنوشي الشخصية الثانية في الدولة بعدما أصبح رئيس مجلس النواب. ولكن على وقع سخط الشارع التونسي من ممارسات الإخوان، أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد قرارا بتجميد عمل البرلمان وورفع الحصانة عن أعضائه حتى إشعار آخر، الأمر الذي دفع الغنوشي لحل المكتب التنفيذي للحركة.

أما في المغرب، فق انتهز حزب العدالة والتنمية الفرصة وركب موجة السخط الواسعة على الأحزاب السياسية القديمة، إلا أن والملك وحاشيته – الذي تحمل الإسلاميين على مضض – لم يمنع صعودهم في محاولة لاستكمال الواجهة الديمقراطية مع إبقاء خيوط السلطة الحقيقية تحت سيطرته. زاد حزب العدالة والتنمية من حصته في التصويت في الانتخابات التالية، في عام 2016، لتصل إلى 125 مقعدا، وقضاء خمس سنوات أخرى في السلطة. ولكن هذا الحزب الإخواني الحاكم في المغرب تعرض لهزيمة مدوية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي شهدتها البلاد في 8 أيلول، بعدما فاز بـ 12 مقعدا فقط في مجلس النواب مقارنة بـ 125مقعدا في آخر انتخابات عام 2016، ما اعتبر تحولا في الأحداث يتردد صداه في جميع أنحاء شمال إفريقيا، بالنظر إلى الدور الرائد لما يسمى بالإسلام السياسي في “الربيع العربي”. وكان هذا الحزب أول حزب إخواني يصل إلى السلطة في انتخابات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بفوزه، في انتخابات تشرين الثاني 2011، حيث نزل إلى الشوارع للمطالبة بإصلاح جذري يهدف إلى جعل المغرب ملكية دستورية، “يحكم الملك ولكن لا يحكم”، على غرار الملكيات الأوروبية في المملكة المتحدة أو الدول الاسكندنافية.

 

تغييرات تجميلية!!

في هذا الوقت، استشعر الملك المغربي محمد السادس خطورة الوضع، ورأى المكان الذي تهب منه الرياح، وتصرف بسرعة لتجنب أي اضطراب يمكن أن يهدد عرشه، فسارع إلى إقالة الحكومة وحل البرلمان لوقف موجة الاحتجاجات، وأعلن عزمه على صياغة دستور جديد لوضع المغرب على مسار جديد.

تمت الموافقة على الدستور بعد ذلك بأغلبية 98.5٪ من الأصوات، وتم الترحيب به باعتباره مغيرا لقواعد اللعبة، وقد ساعد الدستور الجديد في تصوير الملك على أنه “مستبد مرحب به” يتوق إلى تقاسم السلطة مع الشعب. لكن الإصلاحات التي وعد بها الملك اعتبرت سطحية من قبل حركة “20 شباط من اجل التغيير”.

فعليا، احتفظ الملك في الدستور الجديد بجميع السلطات التي كان يمتلكها في الماضي تقريبا؛ فقد واصل السيطرة على السياسة الخارجية والدفاع والأمن الداخلي، كما احتفظ بمنصبه كزعيم روحي للأمة، فهو رسميا “أمير المؤمنين”، وهو وصف تاريخي لا يستخدم في أي مكان آخر في العالم اليوم، ويقوم على الادعاء بأن سلالته هي سليل مباشر للنبي محمد. ومع ذلك، فقد أعلن الدستور الجديد بداية جديدة لجزء من الطبقة السياسية، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية.

على الرغم من تخلي الملك عن بعض سلطاته كجزء من الاصلاحات الدستورية، إلا انه بقي أقوى شخصية في البلاد، وهو الذي يختار رئيس الوزراء من الحزب الفائز بالانتخابات، والذي سيشكل بعد ذلك الحكومة ويقدمها للملك للموافقة عليها. وبقيت للقصر الكلمة الأخيرة في التعيينات المتعلقة بالإدارات الرئيسية بما في ذلك الداخلية والشؤون الخارجية والدفاع. كما أن القصر يحدد أيضا الأجندة الاقتصادية للبلاد، ويرأس الملك المجلس القضائي والجهاز الأمني، كما أن بعض المناصب الرئيسية مثل وزير الداخلية يشغلها تكنوقراط يعينهم الملك.

 

فوز العدالة والتنمية

فاز حزب العدالة والتنمية في انتخابات عام 2011، حيث استغل الفرصة وركب موجة الغضب الواسعة ليحصل على أغلبية المقاعد في البرلمان المغربي (107 مقاعد)، كما فاز في الانتخابات التي جرت عام 2016 وحصل فيها على 126 مقعداً،وذلك على خلفية وعوده أثناء حملته الانتخابية بحل العديد من الملفات التي تمس الحياة اليومية للمواطن، ومنها إصلاح صندوق المقاصة الذي تأثرت به بعض المواد التي كانت مدعومة من قبل الدولة، بالإضافة إلى تقاعد الموظفين.

 

الإخوان في السلطة

بمجرد وصوله إلى السلطة أصبح الحزب أكثر ملكية وتسلطا من الملك نفسه، وانحاز إلى “المخزن” – وهو المصطلح الذي يستخدمه المغاربة للإشارة إلى الملك ورجال الحاشية والأجهزة الأمنية – ضد الشعب في الخلافات الرئيسية حول الحقوق والعمالة.

وخلال سنوات من رئاسته للحكومة، وجد المعلمون أن تغيير عقودهم هو المحاولة الأولى لتفكيك نظام التعليم العام، وأكدوا أن الحزب الذي يحمل كلمتي “العدالة” و”التنمية” في اسمه فشل في تحقيق أي منهما.. لقد وعد على سبيل المثال بإخراج المغاربة من براثن الفقر، وتحسين التعليم العام والصحة، لكنه لم يفعل شيئا من ذلك. على العكس، فقد اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء. بالإضافة إلى ذلك، فقد استبعد الحزب جزءا من قاعدته من خلال الموافقة على قانون مثير للجدل يقضي بإدخال عقود لمدة عامين للمعلمين، مما يحرمهم من الأمن الوظيفي ويعتبره البعض الخطوة الأولى في خصخصة نظام التعليم. وفيما يتعلق بمسألة مكانة اللغة الفرنسية في التعليم – وهو موضوع حساس بشكل خاص بالنسبة لحزب يزعم انه يدافع عن الهوية العربية الإسلامية في المستعمرة الفرنسية السابقة – فقد فشل في منع قانون جعل الفرنسية لغة تدريس العلوم في المدارس.

كما شهد الشارع المغربي تنامي حالة الإحباط الشعبي منذ عام 2016 عبرت عنه الاحتجاجات في الريف المغربي. وفي عام 2018، تم إطلاق حركة مقاطعة استهلاكية ضد ثلاث شركات كبرى مرتبطة بالنخبة السياسية، إلى جانب تراجع الثقة في المؤسسات المنتخبة، حيث أظهرت دراسة نشرها المعهد المغربي لتحليل السياسات، عام 2019، أن 69% من المغاربة قلقون بشأن الاتجاه العام للبلاد، وغير راضين عن الوضع الاقتصادي، فيما أعرب 74% عن استيائهم من جهود الحكومة المتعلقة بمكافحة الفساد.

وفي مواجهة هذا الاستياء الشعبي المتنامي وتشككه بمستقبل البلاد، وعد الملك عام 2018 بزلزال سياسي أدى إلى إقالته العديد من الوزراء وعلى رأسهم وزراء التعليم والصحة والداخلية، ولم يكن أيا منهم من حزب العدالة والتنمية. ومن ثم أدى استياء الملك من أداء الحكومة في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية إلى إجراء تعديل ثان في تشرين الأول عام 2019، ما أسفر عن إضعاف موقف الحكومة وحزب العدالة والتنمية.

 

تغيير قانون الانتخابات

في آذار 2021، صوت البرلمان على قرار تعديل قانون الانتخابات، والذي شمل إلغاء العتبة وتغيير القاسم الانتخابي، وهو المعدل الذي يحتسب على أساسه توزيع المقاعد. ووجّه هذا التعديل أيضا ضربة حاسمة لفرص الحزب في تحقيق نصر انتخابي كبير آخر، إذ ساهم خفض المعيار القياسي للأحزاب الصغيرة وفرز الأصوات على أساس جميع الناخبين المؤهلين، بدلا من مجرد بطاقات الاقتراع الصحيحة، في إلحاق الهزيمة بالحزب. وطعن الحزب في التغييرات ووصفها بأنها غير دستورية، لكنه فشل في منعها في البرلمان. وللوهلة الأولى، كانت هذه التغييرات تهدف إلى السماح بمزيد من التعددية، لكنها في الواقع أدت إلى مزيد من تفتيت المشهد السياسي، وهو تكتيك يستخدمه “المخزن” منذ فترة طويلة لتقويض الأحزاب السياسية، كما يقول المحللون.

 

السقوط

حققت انتخابات مفاجأة صادمةـ فقد تصدر حزب التجمع الوطني للأحرار، بزعامة الملياردير عزيز اخنوش، النتائج بحصوله على 97 مقعدا، يليه حزب الأصالة والمعاصرة برصيد 82 مقعدا، فيما جاء في المركز الثالث حزب الاستقلال بحصوله على 78 مقعدا، وفي المركز الرابع حزب الاتحاد الاشتراكي بحصوله على 35 مقعدا. وحل في المرتبة الخامسة حزب الحركة الشعبية بـ 26 مقعدا، ثم التقدم والاشتراكية بـ 20 مقعدا، وفي المركز السابع جاء الاتحاد الدستوري بـ 18 مقعدا، بينما حل حزب العدالة والتنمية في المركز الثامن والأخير بـ 12 مقعدا.

وبينما توقع الجميع أن يخسر الحزب بضعة أصوات في هذه الانتخابات، لم يتوقع أحد أن تلحق به هذه الهزيمة اللاذعة، وحتى زعيم الحزب ونائبه فقدا مقاعدهما، ما أدى إلى استقالتهما على الفور. ولم تعرف حتى الآن أسباب هذا السقوط الدراماتيكي بالكامل، لكن المراقبين يتفقون على أن “حزب العدالة والتنمية” قد اسقط القناع عن وجهه الحقيقي وكشف زيف وعوده الانتخابية.

ويتألف حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي تأسس عام 1978، من رجال الأعمال والتكنوقراط وموظفي الخدمة المدنية رفيعي المستوى. ووقد نجح في حملته لاستمالة الناخبين تحت شعار “أنت تستحق الأفضل”، مكتوبا باللهجة المغربية بدلا من العربية التقليدية. وكان أخنوش وزيرا للزراعة والثروة السمكية. ووفقا لمجلة فوربس، تبلغ ثروة أخنوش ملياري دولار جمعها من العمل في مجالات الطاقة والبنوك والعقارات والسياحة، كما أن زوجته، إدريسي أخنوش، سيدة أعمال قوية، أسست وأدارت مجموعة “أكسال” التي تسيطر على 50 في المئة من موروكو مول، أحد أكبر سلاسل مراكز التسوق في أفريقيا.

وأخنوش صديق للملك المغربي، وقال إن “لحظة توليه رئاسة الوزراء قد حانت بعد فوز حزبه في الانتخابات العامة”. ويأمل المغاربة أن يغدق بسخاء على معقله السياسي في الساحل الجنوبي للبلاد، ويمنح سكانه المدارس والمستشفيات والوظائف، و”في بعض الحالات المال لشراء الأحذية الجديدة التي هم في أمس الحاجة إليها”، كما علقت صحيفة “التايمز” البريطانية

وأشارت الصحيفة إلى أن “أداء المغرب كان جيدا نسبيا من الناحية الاقتصادية، لكن النمو بحاجة إلى أن يمتد إلى ما وراء المدن الكبيرة، كما يجب زيادة الإنتاجية في القطاع الزراعي، وخلق المزيد من الوظائف للعمال غير المؤهلين، وهم شريحة كبيرة من السكان”.

 

مسمار أخير في نعش الإخوان المسلمين

يعتبر المحللون سقوط حزب العدالة والتنمية في المغرب بمثابة المسمار الأخير في نعش الإخوان المسلمين، كما يشير إلى أن “المخزن” قد نجا الآن تماما من العواصف الاحتجاجية وعواقبها المباشرة في الداخل. لكن التوترات الأساسية التي ولدت من السعي إلى حكومة تمثيلية وخاضعة للمساءلة حقا، أو الرغبة في السيطرة على سلطات الملك، لم تختف بعد.

وللأسف فقد اكد عزبز اخنوش، الملياردير وزعيم التجمع الوطني للأحرار، الحائز على أكبر عدد من الأصوات، والذي عينه الملك لتشكيل الحكومة الجديدة، إن حكومته ستعمل على “تنفيذ استراتيجية الملك”.