مجلة البعث الأسبوعية

ثلاثية الرحابنة السينمائية مع فيروز.. الاستثناءات النادرة!!

“البعث الأسبوعية” ــ أمينة عباس

تُعد التجربة السينمائية الرحبانية جزءاً لا يتجزأ من المشروع الفني الثقافي الضخم الذي أتى به الرحابنة منذ أواخر عقد الخمسينيات إلى الأمس القريب؛ فبعد أن خاضوا بجدارة غمار كل الميادين الفنية، من الأغنية الرائدة، إلى الأوبريت الجميل، إلى المسرحية الغنائية الجديدة والعمل الإذاعي والمسلسلات التلفزيونية والقصيدة، جاء من يلفت انتباه الرحابنة، في مطلع العام 1965 – صديق مقرّب لهم يدعى رجا الشوربجي وهو رجل أعمال لبناني من أصل سوري – للولوج إلى عالم السينما بما يملكونه من مقومات العمل الناجح قائلاً، كما جاء في مذكرات منصور الرحباني: “لماذا يا صديقي بعد كل هذا النجاح لا تلجون مجال السينما، خاصة وأنه يتوفر لديكم فيروز بكل جلالها وحضورها المؤنس، وعندكم الألحان الضخمة والأشعار الرشيقة وفرقة شعبية جاهزة لتلبية هذا النداء في أي وقت ترغبون؟! لماذا لا تقومون بتحويل واحدة من مسرحياتكم الناجحة إلى فيلم سينمائي؟”. وبمساعدة المخرج المصري كامل التلسماني، الذي كان مستشاراً فنياً لعائلة الرحابنة، نضجت الفكرة في مخيلة عاصي الرحباني، ووقع الاختيار على مسرحية “بياع الخواتم” التي كانت قد عرضت، عام 1964، في منطقة الأرز شمال لبنان، وفي دمشق، لتحويلها إلى فيلم سينمائي من خلال المخرج يوسف شاهين الذي تحمَّس للعمل مع فيروز. وعندما علم المنتج السوري نادر الأتاسي ما يتم التحضير له من قبل الرحابنة، عرض مساهماته في الإنتاج. وقد بيَّن منصور الرحباني، في مذكراته، أن الاتفاق كان أن تبقى المسرحية في الفيلم كما كانت على المسرح قطعة غنائية. وقد وضع يوسف شاهين ميزانية للفيلم بلغت مئة وخمسين ألف دولار في ذلك الزمن، مشيراً إلى أنه وعاصي وفيروز وصبري الشريف كانوا شركاء في الإنتاج مقابل أتعابهم، ولكن ما حدث أن حساب يوسف شاهين لم يطابق حساب التنفيذ، فإذا بالميزانية تصل إلى نحو 350 ألف دولار.

 

نجح فنياً وخسر مادياً

يذكر العديد من المصادر أن فيلم “بياع الخواتم” – الذي أخرجه يوسف شاهين في بيروت عند بداية العام 1965 – كان من المفروض أن ينجزه مخرج فرنسي يدعى برنار فاريل، لكن ظروفاً معينة حالت دون ذلك، فجرى الاتفاق بين عاصي ومنصور على إسناده ليوسف شاهين الذي لم يتردد في قبوله، وهو الذي كان يشاهد في ذلك الحين فيلماً فرنسيا – هو “مظلات شربورغ”، لجاك ديمي – فاز في “كان”، وجمع بين الإبداع اللوني وشاعرية الحوار والغناء، وهو ما كان يحلم شاهين أن يقوم به، لذلك رفض أن تُصوّر مشاهد الفيلم في قرية حقيقية لأنه أراد الاحتفاظ بالطابعين المسرحي والشاعري للعمل دون أي إيهام، وهذا ما جعله يطلب أن تبنى ضمن أستوديو عصري في ضاحية بيروت الجنوبية قرية بكاملها من خشب وورق، كما طلب من أحد العاملين بالديكور مشاهدة “مظلات شربورغ” ليتمكن لاحقاً من أن يلوّن له بيده كل باب ونافذة، فجاء الفيلم زاخراً بالألوان والديكورات الباهرة التي حررتها حيوية الكاميرا من جوها المسرحي؛ ونجح الفيلم فنياً وجمالياً بشكل جيد، وعُرض طويلاً، إلا أن عائداته المادية كانت كارثية على حد قول منصور. وقد  قدمت فيروز فيه مجموعة من أجمل أغانيها، مثل “تعا ولا تجي”، و”أمي نامت ع بكير”، و”يا مرسال المراسيل”، و”يا بياع الخواتم”. وقد كُتب الكثير عنه، وعقد بعض النقاد مقارنة بينه وبين أهم فيلم غنائي عالمي، ألا وهو “صوت الموسيقى”، لذلك يُعد أحد أفضل الكوميديات الموسيقية التي أنتجتها السينما العربية في تاريخها.

وتدور أحداث الفيلم حول شخصية المختار، ويجسدها المطرب نصري شمس الدين الذي يوهم أهل قريته بوجود شخص يتربص لهم – اسمه راجح – للتأثير عليهم. ومن خلال الأحداث، يعترف المختار لابنة أخته، ريما – التي تجسدها فيروز – أن هذه الشخصية من وحي خياله، وأنه فعل ذلك ليكون مؤثراً على أهل قريته. ولكن ما لم يتوقعه المختار أن شابين من شباب القرية يرتكبان جرائم سرقة، ويلفقان هذه الأفعال لراجح.. وفي خضم هذه الاضطرابات، يظهر رجل طويل، قوي البنية، يتبين أنه راجح “بياع الخواتم”، الذي يقصد القرية في هذا اليوم من كل سنة ليبيع الخواتم في عيد العزاب لشباب وبنات القرية، ولينفضح أمر الشابين ويعاقبا: أحدهما بالزواج من العرافة “زبيدة” التي سرقها، والآخر بالعمل عندها، لسداد ما سرقا منها.

 

أفضل الأفلام

بعد نجاح “بياع الخواتم” فنياً، وعلى الرغم من أنه لم يكن مجزياً مادياً لأصحاب الفكرة، وكان ثقيل الوطأة على مخرجه، فإن الرحابنة عدّوه مشجعاً لإكمال الرحلة في ميدان السينما، ولكن هذه المرة مع مخرج آخر هو المصري، اللبناني الأصل، هنري بركات، الذي قصد بيروت، عام 1966، ساعياً وراء أمرين: الأول استعادة جنسيته اللبنانية، والثاني العمل مع الرحابنة، ففاز بالأمرين معاً؛ وكانت حصيلة لقاء الرحابنة بالمخرج بركات، عام 1966، فيلم “سفر برلك”، وهي كلمة تركية تعني المنفى.

يروي منصور الرحباني في مذكراته أن هنري بركات استطاع – خلافاً لزميله شاهين – خفض ميزانية الفيلم المقررة إلى حد بعيد، فلم تتخط عند نهاية الفيلم الرقم الموضوع إلا بنسبة مئوية ضئيلة، هي الهامش المتاح لكل ميزانية؛ وقد صور الفيلم  في قريتين جبليتين لبنانيتين على أنهما قرية واحدة، هما عين الجوز في المتن ودوما في البترون؛ وهما قريتان كانتا تحافظان إبان تصوير الفيلم على تراثهما المعماري على نحو يشابه إلى حد بعيد التراث التاريخي. وقد نجح “سفر برلك” نجاحاً باهراً، وهو بشهادة النقاد، من أفضل الأفلام التي قدمتها فيروز، وقد غنت فيه مجموعة من الأغاني، مثل: “يا طير”، “يا أهل الدار”، “علموني”،” عنبية”؛ وقد احتجت عليه السفارة التركية لدى السلطات في كل بلد عُرض فيه، بحجة أن الفيلم ضدها. ويعتبر الناقد السينمائي اللبناني محمد سويد أن نجاح الفيلم وصموده على مدى عقود يعود إلى جملة أسباب، بدءاً من إطلاق فيروز في دور “عدلة”، وانتهاء بالوجه البطولي لمقاومة الاحتلال العثماني في حقبته الآيلة إلى الزوال، وسط زحف المجاعة وحلول الحرب العالمية الأولى.

وتدور أحداث الفيلم في العام 1914، عندما كان لبنان تحت الاحتلال العثماني. وللقضاء على المقاومة الشعبية، استولت القوات العثمانية على كل مخازن القمح، وحكمت على جميع الناس بالعمل في تقطيع الحطب، حيث كانت تعيش عدلة في القرية، مع جدتها، وكانت تنتظر خطيبها الذي كان في طريقه لإحضار خواتم الزواج، لكن العثمانيين قبضوا عليه ليعمل بالسخرة في تقطيع الحطب. ومن خلال بحث عدلة عن خطيبها، تكتشف أن عمتها وابنة عمتها من المقاومة. وعندما يعلم العسكر العثماني، من خلال جواسيسه في القرية، أن أفراداً من المقاومة مجتمعين في بيت عدلة، تقوم بتهريبهم من البيت. وبعد الكثير من الأحداث، تقرر مجموعة من المقاومين، وعلى رأسهم عبده، بعد تهريبه، الإبحار في مهمة، لتقف عدلة في نهاية الفيلم على شاطئ البحر تنادي على خطيبها الذي يعدها بالعودة ويطلب منها ارتداء الخاتم.

 

زيارة إلى دمشق  

الفيلم الثالث للرحابنة حمل عنوان “بنت الحارس”، من إخراج هنري بركات، وتأليف الأخوين رحباني. وقد تم تصويره عام 1968، وتدور أحداثه في قرية اسمها كفر غار، حيث يعمل “أبو نجمة”، مع زميله، حارسين ليليين للبلدة التي يضم مجلسها أعضاء فاسدين باستثناء رئيس المجلس (أدّاه عاصي الرحباني). ويقرر أعضاء المجلس صرف الحارسين من الخدمة بحجة توفير أموال البلدية.. وهكذا، يضطر أبو نجمة للعمل في الميناء، ويضطر زميله – وهو الفقير صاحب العائلة – للسفر إلى دمشق ليعمل في مسرح عند شخص يدعى أبو صياح “رفيق سبيعي”. وتحاول نجمة “فيروز”، التي تعمل مدرّسة موسيقى لتلاميذ مدرسة البلدة، وابنة أحد الحارسين، إقناع الأعضاء بإعادة الحارسين إلى عملهما، لكن بلا جدوى.. عندها تلجأ إلى الحيلة، فتتنكر بزي لص اسمه “أبو الكفية” يرهب البلدة، وخصوصاً أعضاء المجلس، فتكشف أعمالهم غير القانونية واللاأخلاقية. ويحاول أعضاء المجلس الإمساك بـ “أبو الكفية”، وقد ظنوا بأن راعياً من قرية مجاورة هو الفاعل، ولكن بعد اعتقاله يظهر أبو الكفية مرة أخرى. وبعد أن تفشل كافة محاولات الأعضاء للكشف عن الفاعل، يتولى رئيس البلدية الأمر، ويطلب من أبو نجمة سراً العودة إلى البلدة، والقبض على “أبو الكفية”.. وفعلاً، يعود أبو نجمة دون علم ابنته، ويصطدم بها وهي تمثل دور “أبو الكفية”، ويطلق عليها النار فيجرحها في يدها، ولا يجد بداً من تسليمها لأعضاء المجلس الذين يحاولون معاقبة نجمة، لكنها تلمح لهم بفضح أعمالهم السيئة، فيتراجعون ويظهرون للصحافة أن الراعي هو “أبو الكفية”.. وهكذا تنتهي القصة بعودة الحارسين إلى عملهما عودة الأبطال.

ومما غنت فيروز في الفيلم، نذكر: “غيبي ولا تغيبي”، “يلا تنام”، “نسم علينا الهوا”، “تك تك يا أم سليمان”، “طيري يا طيارة”، “ياعاقد الحاجبين”، “اطلعي يا عروسة”. وبعد هذا الفيلم، قال منصور الرحباني: “أتممنا الدورة التي معها دخلنا إلى التراث اللبناني من مختلف أبوابه: المسرح والإذاعة والتلفزيون ثم السينما، ونشرنا تراثنا الموسيقي والغنائي والحواري بين الناس عبر تلك الوسائل، فراج وبقي في قلوبهم”.

 

إنتاج معولَم

باكتمال  ثلاثية الرحابنة السينمائية، رأى الناقد محمد سويد أن من الاستثناءات النادرة أن يقيّض لفيلم محلي أن ينطق بلهجته الأصلية حتى ولو كان أبطاله غير مصريين، مؤكداً، في معرض تقويمه لهذا الإنتاج، أن الثلاثية الرحبانية أسهمت بوجود بعض التصنيف غير المسبوق؛ حيث لم يحصل، قبل “بياع الخواتم”، أن عرف الإنتاج اللبناني نقل أثر مسرحي أو مغنى إلى الشاشة الكبيرة، ولم يفرض الفيلم التاريخي حضوره قبل “سفر برلك”، مشيراً إلى أن لعمل الرحابنة وفيروز خصوصيات شعرية وموسيقية وغنائية ساهمت في صون تجربتهم السينمائية من التسوية اللغوية عبر وضعها في عهدة مخرجين مصريين كانوا فائقي الإحساس بتحدرهما من أصول عائلية لبنانية، دون أن ينكر – سويد – أن التجربة السينمائية اللبنانية، هذه، لا تعتبر صادرة عن أصول لبنانية خاصة، وقد قدمت نفسها أنموذجاً مبكراً للإنتاج المعولم في أفلام محلية لا تتجاوز همومها دائرة قرية من نسج الخيال، حيث جمعت خبرات مصرية وسورية وعراقية وفرنسية، وقد حمّضت وطُبعت في باريس ولندن، وأشرف على إنتاجها المنتج السوري نادر الأتاسي؛ واللافت في هذه الأعمال ظهور عاصي الرحباني في الأفلام الثلاثة، والإصرار على الإضاءة على العلاقة التاريخية الوطيدة التي تربط لبنان بسورية؛ فإذا كان فيلمهم الأول “بياع الخواتم” خلا من أي إشارة تخرجه من نطاقه اللبناني القروي المحض، فإن في الفيلمين الآخرين أكثر من علاقة مميزة. ففي “سفر برلك” هناك شخصية درويش الحاضرة لدعم اللبناني بالقمح، وبالنضال المشترك ضد المحتل العثماني، وفي “بنت الحارس” هناك زيارة إلى دمشق التي لجأ إليها أحد الحراس في إطار رحلة بحث عن رزقه في أحد مسارحها.

 

البطلة فيروز

في رصيدها مئات الأغاني، وأكثر من 15 مسرحية، أكثرها من تأليف وتلحين الأخوين رحباني.. لُقّبت بشجرة الأرز اللبنانية، وسفيرة العرب، وجارة القمر، والصوت الملائكي، وصوت الحب، وصوت الأوطان، وسيدة الصباح؛ وقد وُلدت في بيروت، وقدّمت، مع زوجها عاصي وأخيه منصور، العديد من الأوبريتات والأغاني التي يصل عددها إلى 800 أغنية. بدأت الغناء وهي في عمر السادسة تقريباً، وبدأت عملها الفني، في العام 1940، مغنيةَ كورس في الإذاعة اللبنانية، عندما اكتشف صوتها الموسيقي محمد فليفل، وضمها لفريقه الذي كان ينشد الأغاني الوطنية، وألّف لها حليم الرومي، مدير الإذاعة اللبنانية، أول أغنياتها، وأطلق عليها اسم فيروز، ولحن لها بعض الأغنيات، ونالت جوائز وأوسمة عالمية. وفي السينما لم تُقدم سوى ثلاثة أفلام فقط.