الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

رسول حمزاتوف

يكاد السحرُ يطيح بي، وأنا أقرأ سيرة أدبية مثل سيرة شاعر داغستان رسول حمزاتوف، لأن فيها معاني الإبداع، والحكمة، والشجاعة، والعشق الحقيقي الأصيل لبلاده تراباً، وتاريخاً، وعقائد، وبشراً، ويكاد السحر يطيح بي مرّة أخرى، وأنا أقرأ قصائد رسول حمزاتوف المحتشدة بالبراري وما فيها من أعشاب، وزهور، وينابيع، وغدران، وسهول، وأودية، وجبال، وأنسام، وروائح، وفطرة لا تقبل الزيف أو الهجانة.

أقول هذا، وأنا أتابع أخبار احتفالات أهل داغستان، في هذه الأيام الأيلولية، بشاعرهم رسول حمزاتوف وتراثه الشعري الكبير، وسيرة حياته الباذخة التي ابتدأت بقول الشعر وهو في عمر الحادية عشرة، فهو تربّى على ركبتي والده الشاعر حمزاتد ايساسا الذي يقول الشعر الشعبي فيتناقله الناس سماعاً ويصير روايات شعبية لما فيه من جزيل المعاني، وهيبة الحكم، وجمالية الصوغ، وروعة البساطة، وجلال الكلام الآبد في حضوره ومكانته.

يحتفل الداغستانيون خلال هذا الشهر أيلول برسول حمزاتوف الذي بات التعريف الأوفى والأجمل لبلادهم الجبلية والرعوية، المشهورة بالفرسان والخيول، والشجاعة، والحرص على القيم النبيلة، وتبدو أشكال الاحتفال كثيرة جداً، ومتعدّدة جداً، ولكن أبداها تتمثل في هذه الطبعات الكاملة لأعمال حمزاتوف الشعرية، وأقواله المنثورة، ومقالاته التي تناولت جوانب كثيرة من الحياة الداغستانية، وقد أحاطت بالجبال والتلال والحقول والأودية والغدران والبيوت الداغستانية وحوّلتها إلى كائنات من لحم ودم لها قداستها ومهابتها في آن، لأن قصائد حمزاتوف باتت تراتيل تبدي حياتهم، وما فيها من إخلاص، وإيثار، وأمجاد.

في مثل هذا الشهر – أيلول – ومن كل عام تطبع أعمال حمزاتوف طبعات فخمة، وأخرى شعبية، وتوزّع في جميع أنحاء البلاد الداغستانية، ولاسيما في العاصمة “محج قلعة”، وفي قريته “تسادا” التي تحوّل بيته فيها إلى متحف يُعرّف به وبشعره وكتاباته من جهة، مثلما يُعرّف بالحياة البسيطة التي عاشها أبناء داغستان الصغيرة في جغرافيتها، الكبيرة في ثقافتها من جهة أخرى.

ولد رسول حمزاتوف في 8 أيلول 1923 لأب شاعر شعبي مشهور، فعلّمه كتابة الشعر، وفتّح عينيه على جمال قريته، لذلك قال حمزاتوف: العالم يبدأ من عتبة بيتي، هناك، ومن تلك القرية /تسادا/ الصغيرة التي تحيط بها الجبال مثل الأسوار، وفي الحادية عشرة من عمره نظم أول قصيدة أجازها والده، وفي عمر العشرين أصدر أول ديوان شعر مطبوع (شعلة الحب ولهيب الكراهية).

درس في معهد غوركي الأدب والإبداع، فعرف موسكو وتاريخها وأمجاد أهلها، وثقافتها التي نادت بجمالياتها وقولاتها وأعلامها أهم الثقافات العالمية وأرفعها.

ورويداً رويداً غدا حمزاتوف من أهم شعراء الحقبة السوفياتية، ومن أهم شعراء العالم لأنه ولد في إهاب شاعر كوني يقدّس المعاني، والجمال، والإنسان، والقيم التي تنادي بالسعادة والإخاء والسلام.

حياة حمزاتوف وأشعاره مرآتان كبيرتان احتشدت في كلّ منها آيات من صور النبل الرفيع، والزهد البعيد عن الجشع، فتجلّت المحبة التي رأى فيها الطريق الوحيدة التي تمكّن الناس من امتلاك معاني إنسانيتهم وخلودهم بعيداً عن التوحش والبربرية، ولهذا لا يمكن معرفة حمزاتوف المعرفة الحقّة إلا بموافقة هاتين المرآتين وما فيهما من جمال سيرة الحياة وسحرها، وجمال سيرة الشعر وسحره!.

بلى، لولا رسول حمزاتوف ما كان لنا أن نعرف جماليات داغستان وأهلها، ولا وجوه حياتهم الراضية بالجمال كتاباً وسيرةً، ولولاه لكانت دائرة الشعر العالمي ناقصةً في المعنى والمبنى والمغنى.. أيضاً.

حسن حميد

Hasanhamid@yahoo.com