شيء من نفحات “تشرين”
أحمد حسن
منذ نحو عام وفي عشاء سياسي في عمان طالب رجال أعمال أردنيون السفير الأمريكي بالسماح لهم بفتح الأسواق التجارية نحو دمشق، لكنه رفض بصلافة مهدداً من يفعلها بالخروج من “جنّته”، وبالطبع استكان الجميع لهذا الفرمان الأمريكي الصارم والبات.
بيد أن الحقائق المتلاحقة التي فرضها الصمود السوري، والاستدارة الأمريكية نحو الصين، دفعت الأمور نحو تجاوز قضية “السماح” بالتجارة – بين ترحيب أمريكي أولي وعدم اعتراض ضمني لاحق – إلى اتصال هاتفي بين زعيمي البلدين توّج خطوات وزارية تنسيقيّة عدّة شملت قضايا كان مجرد التفكير فيها سابقاً يُعتبر، عند البعض، من الكبائر التي لا يفيد معها توبة ولا اعتذار.
في الوقت ذاته، كان وزير خارجية مصر، وبما تمثّل القاهرة في الوجدان السوري، يصرّح قائلاً: “هناك دائماً ارتباط رئيسي بين مصر وسورية في حفظ الأمن القومي العربي”، وهذه جملة فارقة لأنها، على محدودية الدلالات المرادة منها في هذه اللحظة بالذات، تعبّر عن أول بديهية في نظرية الأمن القومي العربي التي تقول، وبكلمات الكاتب المصري “عبدالله السناوي”: “بحقائق الجغرافيا السياسية إذا ما سقطت سورية تتقوّض مصر ويخسر العالم العربي كلّه أية مناعة تحول دون تفكيك دوله والتلاعب بمصائره”، وذلك كلام يؤكد، الرسمي منه والصحفي، أن شيئاً ما من نفحات “تشرين” تهبّ في أجواء المنطقة، بغض النظر عن اختلاف الدوافع والظروف وتغيّر المواقع وتبدّل الارتباطات والاهتمامات والأولويات والأهداف.
والحال أنه في السنوات العشر الماضية لم تسقط سورية لكنها أُضعفت بعد أن حُوربت بضراوة غير مسبوقة من الجميع، أشقاء قبل الأعداء – حتى كاد ينطبق عليها قول الشاعر “وسوى الروم خلف ظهرك روم فعلى أي جانبيك تميل” – وكان من بين أهم الأسباب المضمرة مواصلة الحرب التي أعلنت منذ توقف آخر رصاصة في حرب “تشرين”، بل وخلالها، على فكرة “تشرين” ذاتها التي تتجاوز قضية النصر العسكري على أهميته الفائقة، إلى قضية وعي جديد أفصح حينها عن حقيقة ثابتة مفادها إن العرب حين يمتلكون الإرادة، وقليلا من التنسيق، يستطيعون التأثير والانتصار وتغيير مسار الهزيمة وصناعة الغد.
وتلك هي الفكرة التي وأدها “السادات” بزيارته القدس فأضاعت مصر دورها ومكانها ومكانتها، ثم تابع “داعموه” الحرب عليها حول دمشق، في بيروت مثلاً، ثم داخلها بكل ما يملكون من مال وإعلام وسرديات تضليلية في محاولة محمومة لـ “كيّ” الوعي الشعبي كي ينساها ويتجاهلها.. كي تبقى لحظة منقطعة عما قبلها وغير مثمرة لما بعدها، بل حاولوا دفع الشعب إلى الندم على مجرد اجتراحها كأنما هي وصمة عار يجب التبرؤ منها وعدم تكرارها، لا لحظة عز وفخار يُبنى عليها لأيام قادمة.
ذلك هو إطار الحرب على دمشق، وبنتيجته كادت مصر أن تتقوّض فعلياً تحت حكم “الإخوان” وأصبح العرب ريشة في مهب لعبة الأمم فشهدنا انبطاحاً غير مسبوق في خسّته لبعض الأنظمة، وصمتاً غير مقبول لأخرى خوفاً من أن يصلها الدور، وتآمراً من دول جوار عربية في استضافة مجاميع ظلامية إرهابية التهمت شبابهم في طريقها لتحرير دمشق!! وكادت في لحظة معينة أن “تلتهم” عواصمهم وسلطاتهم وكراسيهم ذاتها.
لكن ها هو “تشرين” مرة جديدة، يعيد اجتراح معجزته، ليشهد بداية تصحيح لمسار عربي تخبّط طويلاً في ظلام السنوات العشر الماضية وتاه بعيداً في أوهام مشاريع ضالة ومضلّة أيضاً، لتعود الحقائق، مرة أخرى، لقول كلمتها الحاسمة: “لا عالم عربيا بلا مصر التي تمثل ثلث كتلته السكانية، ولا نهضة عربية بلا سورية ـــ مهما حسنت النوايا والتوجهات”.
وعلى الهامش، للبعض الذي لا زال متردداً في طرق أبواب دمشق بحجة “عقوبات المجتمع الدولي!!”: أولاً، “يطعمك الحج والناس راجعة”، وثانياً، حين يصدر القرار الأمريكي سنسمع منك قبل غيرك، ألحان “سوا ربينا”.