سياسة الخداع الأمريكية
هيفاء علي
يمكن للمرء تخيل أن الولايات المتحدة عالقة بين المطرقة والسندان، المطرقة هي الحرب العالمية السيبرانية، أما السندان فهو الموت البطيء للإمبراطورية، لهذا السبب لجأت إلى الخداع على أمل الفوز بالرهان. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 ارتكبت الولايات المتحدة خطأً كبيراً، ففي وثيقة مؤرخة في شباط 1992 بعنوان “دليل التخطيط الدفاعي” فرضت على العالم سياسة القوة المهيمنة إلى الأبد. وبعد عشر سنوات في كانون الثاني 2001، انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية بشروط مواتية استفاد منها الصينيون بالكامل. ونتيجة لذلك، نما حجم الاقتصاد الصيني بشكل كبير، من 1.334 مليار دولار في عام 2001 إلى 14.867 مليار دولار في عام 2020، أو 81٪ من الاقتصاد الأمريكي. وفي رد فعل مبالغ فيه على هجوم إرهابي، شرعت الولايات المتحدة في حرب عالمية على الإرهاب استمرت 20 عاماً بتكلفة تقديرية بلغت 21 تريليون دولار، وهو مبلغ يساوي الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة لعام 2020. وبدون جدوى بعد انسحاب ذليل من أفغانستان، ناهيك عن ملايين المدنيين النازحين أو المشوهين أو القتلى، كان هذا هو الخطأ الأكبر.
كان الأجدى لها إنفاق الأموال على تعزيز نظام التعليم وإصلاح البنية التحتية المتداعية والحد من التفاوتات المتزايدة باستمرار. وبغض النظر عن ذلك، فإن الولايات المتحدة مثقلة اليوم بدين يتجاوز المستوى الذي بلغه نهاية الحرب العالمية الثانية (129٪ من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020 مقارنة بـ 113٪ عام 1945) حيث يتم تمويل جزء من هذا الدين من قبل مستثمرين أجانب، وفي مقدمتهم الصين واليابان. نتيجة لذلك، يعاني الاقتصاد الأمريكي الآن من ضائقة شديدة. وإذا كان التضخم سيرتفع أكثر مما كان عليه في الأشهر الأخيرة، كما يتوقع المحللون الاقتصاديون، فسيتعين على الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة، مما قد يغرق البلاد، إن لم يكن العالم، في ركود عميق.
لذلك، بدأت في الآونة الأخيرة تعلو بعض الأصوات في الولايات المتحدة داعية السلطات فيها إلى إدراك خطورة الوضع الذي قد تجد نفسها فيه، والى إدراك أخطائها الماضية. كما دعت إلى ضرورة البحث عن طرق لتحسين العلاقات الدولية من أجل التركيز على القضايا المحلية، وليس هذا هو المسار الذي تسلكه إدارة بايدن. على الصعيد الدولي، تتبع الإدارة سياسة ذات مسارين تهدف إلى خداع الصين وروسيا أثناء الانخراط في مناورات عدوانية مع حلفائها وأصدقائها. وهذا الخداع اتخذ في البداية شكل محادثة هاتفية مع فلاديمير بوتين، تلاها اجتماع في 16حزيران الماضي في جنيف، دون نتيجة ملموسة. كانت هناك محادثة هاتفية أخرى مع شي جين بينغ، والتي لم تسفر هذه المرة عن أي شيء لأن الزعيم الصيني رفض مقابلة الرئيس الأمريكي. ومع ذلك، في كلتا الحالتين، اتفق القادة على أن المتعاونين يجب أن يجتمعوا لتحقيق الاستقرار في علاقتهم.
مع بدء هذه الاجتماعات، عززت الولايات المتحدة تحالفاتها في المحيط الهادئ، كما اتضح من اتفاق” أوكوس” والبيان المشترك لزعماء الرباعية – الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند- لتعزيز علاقاتهم المتبادلة لبناء منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة وضمان سهولة الوصول إليها. بالإضافة إلى ذلك، في 10 أيلول الماضي- اليوم التالي للمكالمة الهاتفية بين جو بايدن وشي جين بينغ- التقى ممثلون من تايوان ومسؤولون أمريكيون في واشنطن لمناقشة تغيير اسم البعثة التايوانية في الولايات المتحدة، والتي ستنتقل من “تايبيه” مكتب الممثل الاقتصادي والثقافي إلى مكتب تمثيل تايوان، مما يجعله أقرب إلى الاعتراف الدبلوماسي الكامل.
في الوقت نفسه، ورداً على المناورات العسكرية الصينية بالقرب من تايوان، قال وزير الخارجية أنطوني بلينكين إن هذه “الأعمال استفزازية ومن المحتمل أن تزعزع الاستقرار”، وحذر من “خطر الخطأ الحسابي”. هذا التحذير غريب بالنظر إلى أنه في حالة اندلاع صراع حول تايوان، فإن الولايات المتحدة ستفشل “فشلاً ذريعاً”، وفقاً للجنرال جون هيتين، نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة، والرأي مبني على مناورة حرب ضد الصين.
ما هو مؤكد أن روسيا والصين تدركان جيداً أهداف أمريكا وتستعدان للأسوأ، وبتوقيع الإعلان المشترك بين الاتحاد الروسي وجمهورية الصين الشعبية في 28 حزيران2021، تم الوصول إلى نقطة اللا عودة. يجدد هذا الإعلان شبه تحالف عمره عشرين عاماً بين البلدين. هذا تطور ملفت للغاية من المنظور غربي، لأن الروس، الذين يعتبرون أنفسهم أوروبيين، أصبحوا الآن حلفاء مع جيرانهم الصينيين بعد أن رفض الأمريكيون، الذين أعمتهم رؤيتهم المهيمنة، السماح لهم بالانضمام إلى العالم الغربي. ومن خلال هذا التحالف، يشهد العالم إنشاء مجالين من النفوذ، أحدهما بقيادة الولايات المتحدة، والآخر بقيادة مشتركة صينية روسية.
بالنتيجة، تعلن الأصوات الصادحة من قلب الولايات المتحدة أن الإمبراطورية الأمريكية تحتضر، كما يتضح من الكارثة في أفغانستان والحالة المتردية لاقتصادها، ناهيك عن انقساماتها السياسية ومرارة جزء من سكانها الذين يعيشون تحت خط الفقر، حتى أن ثقة الأمريكيين بإدارتهم، والتي وصلت إلى 77٪ في عام1974، انخفضت إلى 24٪، وفقاً لأحدث استطلاعات الرأي، وهي ثلث ما كانت عليه قبل نصف قرن. بدلاً من معالجة مشاكلها المحلية وجهاً لوجه، فإن الولايات المتحدة تخادع على طاولة البوكر،على أمل الفوز في مجموع الرهان. لكن هذا لن ينجح بعد الآن، لأن أيديها ضعيفة وخصومها يعرفون ذلك.