هل تنجح مبادرات “غلاسكو” في إنقاذ كوكب الأرض؟
البعث الأسبوعية – تقارير:
بعد مرورو نحو 6 سنوات على توقيع اتفاق باريس للمناخ، حين أصر المضيفون الفرنسيون على بند يلزم الدول بمطابقة الوعود بالأفعال فيما يتعلق بمكافحة ظاهرة التغير المناخي، فإنه لباريس فإن مؤتمر غلاسكو هو “مؤتمر العمل الذي نطبق فيه اتفاق باريس”، وبالتالي يمكن القول ان مؤتمر غلاسكو البوابة الحقيقة والفعلية للمضي بذلك لا سيما وأن المؤتمر شهد توقيع إطلاق عدة مبادرات للتخفيف من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو والمحافظة على نسب معقولة لا تتجاوز 1.5 % للانبعاثاته وهي نسبة معقولة وفق من طرح المبادرات، فهل تحمي هذه المبادرات الأرض؟.
الأرقام تتحدث
لفهم الأمر بوضوح، دعنا نتحدث بالأرقام. خلال 800 ألف سنة مضت، تذبذبت نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو بين 180-280 جزءا من المليون في أعلى حالاتها. بعد الثورة الصناعية، واستخدام الوقود الأحفوري، وانتشار السيارات والطائرات والمصانع العملاقة، أخذت هذه النسبة ترتفع ارتفاعا جنونيا وغير مسبوق، حتى وصلت في يومنا هذا إلى أكثر من 400 جزء. هذا الرقم يفوق قدرة الطبيعة على التأقلم، لذا حدث الاحتباس الحراري، وظهرت تبعاته بوضوح في العقود الأخيرة، من فيضانات وجفاف، وأعاصير وحرائق غابات، وارتفاع مستوى مياه البحر وموجات حارة عنيفة.
تركيز ثاني أكسيد الكربون
وفقا لاتفاقية باريس للمناخ، من المفترض لأجل الحفاظ على جودة الحياة على الكوكب ألا تقفز درجة حرارة الأرض أكثر من 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، ولتحقيق ذلك، لا بد أن ينخفض مستوى ثاني أكسيد الكربون بنسبة 7.6% سنويا لمدة 10 سنوات من 2020 حتى 2030، وهو أمر ليس من السهل تحقيقه في عالم يعتمد اعتمادا بالغا على مشتقات النفط مصدرا للطاقة . لذا، يُقام مؤتمر تغير المناخ (COP26) في مدينة غلاسكو باسكتلندا، وهو المؤتمر السادس والعشرون للأطراف المشاركة في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ بالإضافة إلى اتفاقية باريس، ويأمل المؤتمر في لمِّ شمل العالم بأكمله من أجل العمل معا على السيطرة على الرقمين الأكثر أهمية: 400 جزء، و1.5 درجة مئوية.
جائزة ذا إيرث شوت
ومن أجل تحقيق هذا الهدف نفسه، أطلق الأمير ويليام، دوق كامبريدج، مبادرة “ذا إيرث شوت” بداية من هذا العام وحتى عام 2030، وتتمحور حول 5 أهداف كبرى لاستعادة توازن الكوكب وموارده. تُمنح الجائزة كل عام ولمدة 10 أعوام لخمسة فائزين، سواء كانوا أفرادا أو مجموعات، أو حكومات أو دولا أو مؤسسات، في حال قدَّموا أفكارا أو اختراعات ملهمة وقابلة للتنفيذ في 5 مجالات أُجمِعَ عليها عِلميا، وهي: حماية واستعادة الطبيعة، وتنظيف الهواء، وإعادة إحياء المحيطات، وبناء عالم خالٍ من النفايات، وتصحيح المناخ. تُقيَّم الأعمال المُقدَّمة من حيث تأثيرها الشامل والقابل للتطبيق على نطاق عالمي، وبالطبع اتفاقها مع الأهداف المعلنة للجائزة وتأثيرها على حياة سكان الكوكب.
بدأت المسابقة منذ تشرين الثاني 2020، وتقدَّم نحو 750 متسابقا من جميع بقاع الأرض، وبعد تصفية المشاركات إلى قائمة طويلة، اختار فريق الخبراء الاستشاري بعد ذلك القائمة القصيرة، ثم اختار مجلس الجائزة الفائزين الخمسة. تبلغ قيمة الجائزة مليون جنيه إسترليني تُمنح لكل فائز من أجل تطوير فكرته والاستفادة منها خلال العقد القادم.
الخمسة الأوائل
أولا، فازت جمهورية كوستاريكا بجائزة حماية واستعادة الطبيعة (Protect and Restore Nature)، بفضل الإنجاز المتميز الذي حقَّقته الدولة بأكملها في استعادة الغابات التي دُمِّرت نصف مساحتها في أوائل التسعينيات. شجَّعت وزارة البيئة المواطنين على زراعة الأشجار والحفاظ على الغابات، ومنحتهم مكافآت مالية في المقابل، ونتيجة لذلك فإن غابات كوستاريكا تضاعفت في الحجم، وازدهرت النباتات والحيوانات من جديد.
ثانيا، فازت الشركة الهندية “تاكاشار” (Takachar) بجائزة تنظيف الهواء (Clean our Air). تصل قيمة مخلفات الزراعة التي تُحرَق كل عام إلى نحو 120 مليار دولار، هذا ليس فقط هدرا للمال، للمساهمة في هذا الهدف، ابتكرت الشركة آلة صغيرة منخفضة التكاليف، يمكن إلحاقها بالجرارات، تُحوِّل المخلفات الحيوية إلى وقود صلب وسماد ومنتجات كيماوية أخرى. يأمل موهان أن يساعد ابتكاره في تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة عن طريق تقليل الدخان الناتج عن حرق مخلفات الزراعة بنسبة 95% خلال العقد الجاري.
ثالثا، فازت مؤسسة “كورال فيتا” (Coral Vita) من الباهاما بجائزة إعادة إحياء المحيطات (Revive our Oceans). يهدف سام تيتشر وجاتور هالبيرن، مؤسِّسا الشركة، إلى زراعة الشعاب المرجانية على الشاطئ ثم نقلها لإعادة زراعتها في قلب المحيط. تتميز الشعاب المزروعة بقدرتها على مقاومة تغيرات المناخ، باﻹضافة إلى أنها تنمو أسرع من الشعاب التقليدية بـ 150 مرة. تسعى المؤسسة لاستعادة الحيّد (الحاجز) المرجاني الذي دُمِّر تدريجيا نتيجة ارتفاع درجة حرارة وحمضية المحيطات، ومن المتوقَّع أن يختفي بنسبة 90% بحلول عام 2050. يأمل الشريكان أن يتمكنا من إنشاء مزرعة شعاب مرجانية في كل دولة تطل على المحيط، بالاستعانة بقيمة الجائزة قد يتمكنان من تحقيق هذا الحلم وإنقاذ الحيّد المرجاني الذي يحتوي على 25% من أشكال الحياة في المحيط.
رابعا، فازت مدينة ميلان الإيطالية بجائزة بناء عالم خالٍ من النفايات (Build a Waste-Free World). في تعاون غير مسبوق بين الحكومة والمؤسسات الخاصة والجامعات وبنوك الطعام والجمعيات الخيرية غير الهادفة للربح، تمكَّنت المدينة، من خلال مراكز مخلفات الطعام (Waste Food Hubs)، من حل مشكلتين متوطنتين في وقت واحد هما الجوع وهدر الطعام. ولو اتبعت بقية مدن العالم النهج نفسه فقد يكون هناك تأثير عالمي حقيقي على كلٍّ من نسبة انبعاثات الغازات الاحترارية الناتجة عن صناعة الأطعمة وزراعتها، ومعدلات الجوع وسوء التغذية في كل دول العالم. لا طعام مهدر، ولا شخص جائع على كوكب الأرض.
أخيرا، فازت شركة “إينابتر” (Enapter) لمؤسِّستها فايتا كوان بجائزة تصحيح المناخ (Fix our Climate). غاز الهيدروجين يُعَدُّ من العناصر المهمة في صناعات الحديد والصلب والنقل وتخزين الطاقة، لذا من المهم الحصول عليه من مصادر نظيفة، مثل جهاز المحلل الكهربائي (AEM Electrolyser) الذي ابتكرته الشركة (14)، الذي يُحوِّل الطاقة النظيفة والمياه إلى هيدروجين، بلا انبعاثات سامة.
مبادرة الشبكات الخضراء
هذا ليس كل شيء، فخلال فعاليات المؤتمر أعلن عن مبادرة الشبكات الخضراء تعتمد فكرة المبادرة على النظرية التي تقول إن الطاقة الصادرة من الشمس لمدة ساعة واحدة بالنهار تكفي لتزويد الكوكب بأكمله بالطاقة لمدة عام كامل. تهدف المبادرة إلى بناء محطات الطاقة الشمسية ومحطات الرياح في أفضل الأماكن في العالم، ثم توصيل هذه الشبكات إلى دول العالم كافة عبر الحدود.
تبدو هذه الخطة طموحة للغاية، ومرتفعة التكاليف أيضا، وتستلزم تعاونا دوليا لا يُستهان به لرفع الحدود والخلافات بين الدول من أجل تمديد البنية التحتية اللازمة، بحيث تُصدِّر الدول التي تمتلك أعلى معدلات تعرُّض للشمس والرياح الطاقةَ للدول التي لا تتعرَّض للشمس أو الرياح تعرُّضا كافيا.
مبادرة أخضر نظيف
مبادرة أخضر نظيف (Clean Green Initiative)، من أجل مساعدة الدول النامية لتطوير تكنولوجيا نظيفة وتحقيق اقتصادات مستدامة. تسعى المبادرة للتوفيق بين الدول الأكثر تضرُّرا من تغير المناخ والدول الأكثر تسبُّبا في هذا التغيير، وهي تتعهَّد بتقديم 3 مليارات جنيه إسترليني، وهو ضِعْف الرقم الذي استُثمر سابقا في المساعدات المتعلقة بالطاقة النظيفة، لإنشاء بنية تحتية خضراء مستدامة وتسهيل وصول التكنولوجيا الخضراء والطاقة النظيفة إلى هذه الدول.
أخيراً
أمام ما جرى في مؤتمر غلاسكو من إطلاق مبادرات ونقاشات وأبحاث هل يكفي هذا لإنقاذ الكوكب؟ يمكن القول إن هناك تحرُّكا قد بدأ، لكنه يمتلك سِمتين مخيفتين، فهو بطيء ولا يتناسب مع حجم التغير السريع في مناخ الكوكب، كما أنه جاء متأخرا، في الواقع لقد بدأ الضرر بالفعل، ولا يمكن رده للاتجاه العكسي، لكن جُل ما نتمناه من مبادرات كهذه أن نتمكَّن من إيقاف تطوُّر الأزمة، نحن الآن قادرون على المواجهة، لكن مع ضربة مناخية إضافية ربما نعود مجددا للكهوف مثل الإنسان الأول!.