الولايات المتحدة تلقي “محاضرات نفاق” على الأفارقة متجاهلة التاريخ
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
لم يكشف البحث الأخير الذي أجراه معهد “في ديم” السويدي الذي يتعقب مستوى الديمقراطية في البلدان، عن الحقيقة المخفية جيداً بأن الولايات المتحدة وحلفاؤها يشغلون “حصة كبيرة من سبب التراجع الديمقراطي العالمي في العقد الماضي”. حيث ذكر البحث أن عدداً قليلاً جداً من حلفاء الولايات المتحدة شهد تعزيزاً للديمقراطية، في حين أن العديد من الدول غير المتحالفة مع الولايات المتحدة فعلت ذلك. وتعليقاً على هذا البحث، قالت صحيفة نيويورك تايمز : “النتائج تقوض المزاعم الأمريكية بأن قوة الولايات المتحدة هي بالفطرة قوة ديمقراطية في العالم.”
القوة ة المزعزعة للاستقرار
مؤخراً ألقى وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن محاضرة وبخ فيها الأفارقة، ملقياً باللوم على ما أسماه التطرف المتزايد والاستبداد في تعريض الديمقراطية وحقوق الإنسان في القارة للخطر، مشترطاً لمنح المساعدة العسكرية الأمريكية لأفريقيا تحسين السلوك.
على الرغم من أن بلينكن تحدث عن التطرف وحقوق الإنسان، إلا أن خطابه كان يمكن قبوله بامتلاك ميزة فقدان الذاكرة التاريخي، فالدعم العسكري الأمريكي في أفريقيا لم يترجم إلى حقوق الإنسان. ووفقاً لـ نيك تورس المؤرخ الأمريكي، دعمت الولايات المتحدة ودربت القوات الكونغولية لكي تشارك في عمليات الاغتصاب الجماعي والفظائع الأخرى، وعبر المساعدات الأمريكية والتدريب أيضاً شكلت القوات الكينية فرق الموت المأجورة، كما تورطت القوات الإثيوبية المدعومة من الولايات المتحدة في الانتهاكات، كما كانت انتهاكات حقوق الإنسان نتاج الدعم والتدريب الأمريكي في تشاد، ويمكن قول الشيء نفسه عن الكاميرون”.
على الرغم من أن الوجود العسكري الأمريكي في إفريقيا غالباً ما يتم تبريره بالحرب على الإرهاب، إلا أن القوات الأمريكية وطأت أقدامها في إفريقيا قبل الحرب ضد التطرف أو الإرهاب. ويذكر تورس أن التاريخ الحديث يشير إلى أنه مع زيادة “العمليات الأمريكية” في إفريقيا، انتشر التشدد، وانتشرت الجماعات المتمردة، وتعثر الحلفاء أو ارتكبوا انتهاكات، وزاد الإرهاب، وارتفع عدد الدول الفاشلة، وأصبحت القارة أكثر اضطراباً. لذلك لا يستطيع بلينكن أن يلقي محاضرة على إفريقيا إلا من خلال تجاهل دور أمريكا في تاريخ المشكلة.
يقول تورس إن قائمة وزارة الخارجية للمنظمات الإرهابية تكشف عن زيادة مطردة في أفريقيا توازي نمو مهام مكافحة الإرهاب الأمريكية هناك، فبعد سنوات من التدريب والدعم الأمريكي، ردت القوات النيجيرية بوحشية على مجموعة هامشية، وحولتها إلى جماعة “بوكو حرم” الإرهابية. كذلك أدى الضوء الأخضر الأمريكي للغزو الإثيوبي للصومال إلى تفاقم الأمور في الصومال، وساعدت الولايات المتحدة “على فصل” جنوب السودان بزعم أن الجنوبيين – وفقاً لكلمات جون كيري- “يتجهون نحو حافة الإبادة الجماعية”. ووفقاً لـ تورس، فقد ساعدوا في فصل جنوب السودان لسبب أناني في أن ذلك من شأنه أن “يعزز مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة”، لكن بدلاً من ذلك ، أدى الانفصال إلى أزمة إنسانية وصراع عرقي وحرب أهلية ودولة فاشلة.
ربما كان الحدث الأكثر زعزعة للاستقرار في التاريخ الحديث في إفريقيا هو الغزو الأمريكي لليبيا، و يصف تورس كذلك كيف ساعد هذا التدخل في إرسال مالي المجاورة “إلى دوامة من الانحدار”. فقد وجد فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن غزو ليبيا أدى إلى انتشار الأسلحة في جميع أنحاء إفريقيا، مما أدى إلى تغذية الصراعات وتغذية الجماعات الإرهابية، ناهيك عن انتشار الأسلحة الثقيلة. كما أدى غزو ليبيا إلى انقلاب في مالي فاقم التطرف والصراع الإنساني. بعد سنوات فقط، وفقاً لتورس “أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة قامت بتوجيه مكثف للضابط الذي أطاح بحكومة مالي المنتخبة في عام 2012″، وقد يكون الأمر نفسه صحيحاً مؤخراً في غينيا.
سجل سيء
لم تكن تلك الانقلابات حدثاً استثنائياً، لأن للولايات المتحدة سجل مأساوي في كل من الانقلابات ودعم الحكومات الاستبدادية في إفريقيا. كان السجل الأمريكي في جنوب إفريقيا محرجاً في سنوات الفصل العنصري، ولم يكن الأمريكيون بالتأكيد يدافعون عن الديمقراطية أو يساعدون حقوق الإنسان عندما لعبت وكالة المخابرات المركزية دوراً أساسياً في اعتقال نيلسون مانديلا في عام 1962. وبينما كان بلينكن يلقي محاضرات نفاق على الأفارقة حول الحكومات الاستبدادية وانتهاكات حقوق الإنسان، نسي أن يذكر شراكة أمريكا مع رئيس غينيا الاستوائية تيودورو أوبيانغ الذي استولى على السلطة في انقلاب قبل خمسة وثلاثين عاماً، بحيث بات منذ ذلك الحين شريك أمريكا بالقمع وانتهاكات حقوق الإنسان التي يوجه بلينكن اللوم إلى أفريقيا بسببها. لذلك إن الانقلابات الأفريقية ليست جديدة بالنسبة للولايات المتحدة، ففي واحدة من أولى انقلابات وكالة المخابرات المركزية، اغتيل زعيم الكونغو المنتخب ديمقراطياً باتريس لومومبا مما أدى إلى زعزعة الاستقرار، وهذا ليس فقط في الكونغو، بل أيضاً في أفريقيا.
النفاق
لا يتطلب فقدان الذاكرة التاريخي لأمريكا هذه القائمة الطويلة من الإنكار لدورها في إفريقيا فحسب، بل يتطلب أيضاً قائمة طويلة من النفاق. لقد انتقد بلينكن الحكومات الأفريقية لأمور من بينها تزوير أو إلغاء الانتخابات واعتقال الشخصيات المعارضة وقمع وسائل الإعلام، لكن إلغاء الانتخابات هو بالضبط ما دعمته الولايات المتحدة عبر المحيط في أمريكا اللاتينية، فقد دعمت الولايات المتحدة تأجيل الانتخابات في هاييتي لمساعدة الحكومة المفضلة للأمريكيين على التمسك بالسلطة. كما تدخلوا في الانتخابات من خلال الضغط على أحزاب المعارضة في فنزويلا لمقاطعة الانتخابات، بل حاولوا قلب الانتخابات في فنزويلا وبوليفيا من خلال الطعن بطريقة مخادعة في نتائجها. ومؤخراً تم تحديد الانتخابات في البرازيل وبوليفيا وهندوراس والإكوادور وباراغواي والبيرو من خلال توجيه اتهامات أو اعتقال المرشحين الذين كان من الممكن انتخابهم الغير مرغوب فيهم في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. كما تم توجيه تهم أو اعتقال كل من لولا دا سيلفا وإيفو موراليس من بوليفيا، ومانويل زيلايا من هندوراس، وفريدريكو فرانكو من باراغواي، ورافيل كوريا في الإكوادور لضمان شكل الانتخابات التي يريدونها.
على الرغم من أن بلينكن أعرب عن معارضته لقمع الحكومات الأفريقية على وسائل الإعلام، إلا أنه لم يبد أي معارضة عندما فرضت منصات وسائل التواصل الاجتماعي الأمريكية رقابة على المنافذ الإخبارية في نيكاراغوا والصحفيين الذين دعموا ثورة “الساندينين” في نيكاراغوا. ومن المؤكد أنه لم يكن أبداً من المحرمات في وكالة المخابرات المركزية التدخل في وسائل الإعلام في الدول الأخرى. وفيما يتعلق بشكوى بلينكن بشأن الانقلابات الأفريقية، يبدو أنه ليس لديه مثل هذه الشكوى بشأن عدد لا يحصى من الانقلابات في أمريكا اللاتينية. بمعنى أنه إذا كان عدم الانقلاب شرطاً لدعم الولايات المتحدة لحكومة أفريقية، فإن وجودها يبدو شرطاً لدعم الولايات المتحدة لحكومة من أمريكا اللاتينية..
الهدف الحقيقي مواجهة الصين
إذا كان خطاب بلينكن يعتمد على فقدان الذاكرة التاريخي لإخفاء النفاق والافتقار إلى المسؤولية، فقد اعتمد على الخداع لإخفاء الأهداف الأمريكية. لقد ألمح فقط إلى المكون العسكري عندما علق على أن النتائج يمكن أن تحدد مبيعات الأسلحة إلى نيجيريا، لكن ما علاقة مبيعات الأسلحة بها، ومنذ متى كانت مبيعات الأسلحة أو الدعم العسكري مشروطة بسجلات حقوق الإنسان؟. لم يهتم الأمريكيون بحقوق الإنسان في الكونغو أو كينيا أو إثيوبيا أو الكاميرون أو تشاد، وقد أفاد نيك تورس أن هناك تدخلاً عسكرياً أمريكياً في تسع وأربعين دولة من أصل أربع وخمسين دولة في إفريقيا، والهدف الحقيقي قد لا يكون الاهتمام المكتشف فجأة بشأن حقوق الإنسان والديمقراطية في إفريقيا، قد لا يكون للقلق الحقيقي علاقة بشعوب إفريقيا، بل قد يتعلق الأمر، بدلاً من ذلك، بتحويل إفريقيا إلى مسرح جديد في الحرب الباردة الثانية مع روسيا والصين.
كان اهتمام أمريكا الحقيقي بأفريقيا دائماً هو مواردها، ومع ازدهار الحزام الاقتصادي لطريق الحرير الصيني في إفريقيا، ومع ازدهار مساعدات القوة الناعمة الصينية والتعاون التجاري والبنية التحتية، برزت الصين كلاعب أساسي في إفريقيا. وقد يكون هذا الظهور، أكثر من الاهتمام بالديمقراطية أو حقوق الإنسان، هو السبب في التحول العسكري الأمريكي إلى إفريقيا. حتى قبل أقل من شهر من خطاب بلينكن في إفريقيا، أقر مجلس الشيوخ الأمريكي قانون تفويض الدفاع الوطني المقترح لعام 2022، وقام البنتاغون بإنشاء مبادرة منافسة إستراتيجية للقيادة الأمريكية في إفريقيا. “المنافسة الإستراتيجية” هي رمز بايدن للحرب الباردة مع الصين وروسيا، حيث يقول سوبوكوي أودينجا، الأستاذ المساعد للدراسات الأمريكية الإفريقية في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس ، إنه إذا تم تمرير مشروع القانون ستكون أول مبادرة أمنية يصرح بها الكونغرس صراحة منذ الحرب الباردة لتوجيه المساعدة العسكرية للقوات الأفريقية إلى مواجهة بكين وموسكو. يقول أودينجا إن مبادرة المنافسة الإستراتيجية المقترحة “تضع أساساً قانونياً جديداً لمحاولة طويلة الأجل لتوسيع النفوذ العسكري الأمريكي في إفريقيا. أو، كما تقول مبادرة المنافسة الإستراتيجية إنها ستحارب” الإكراه” الروسي والصيني من خلال معالجة مصادر انعدام الأمن في إفريقيا. وهذا يعيدنا إلى الموضوعات التي تم تفصيلها في خطاب بلينكن في نيجيريا، حيث كان خطابه الأفريقي متعالياً اعتمد على الخداع والنفاق. لقد كان خطاب الحرب الباردة الثانية الذي قد ينجح بشكل جيد مع الجمهور الأمريكي إذا فقد الذاكرة التاريخي، لكن من غير المحتمل أن يكون الأفارقة قد نسوا تاريخهم الحديث بالسرعة التي نسيها الأمريكيون.