الروايات الجديدة جداً
ناظم مهنا
ماذا تقول الروايات الجديدة في أحدث دعوات منظريها؟.
قبل الإجابة عن هذا السؤال، لنتذكر الروايات الكلاسيكية الكبرى ذات الطابع الملحمي الاجتماعي، وحرص كتّابها على أن تكون تعبيراً عن شخصيات واقعية متعدّدة الأصوات، وعن شريحة واسعة من المجتمع، مع الحفاظ على أقصى حالات التشويق؛ هكذا كان الأمر مع بلزاك وتولستوي وديستوفسكي وغوركي وجورج أمادو ونجيب محفوظ وآخرين، وهذا النمط الملحمي في الرواية منذ دون كيشوت حتى القرن العشرين دفع الناقد الماركسي جورج لوكاش لأن يعتبر الرواية ملحمة البرجوازية الكبرى، إلا أن انزياحات نوعية حدثت في الرواية عند جيمس جويس ومارسيل بروست، أطلق عليها النقاد وصف: “الرواية المضادة” أي المضادة للنمط البلزاكي، ثم تحوّلت إلى موجة الرواية الجديدة مع آلان روب غرييه، إلى مرحلة التنظير لموت الرواية كجنس ملحمي، معبّر عن المجتمع. واليوم نحن في الموجة الثانية أو الثالثة من عمر الرواية الجديدة ما بعد الملحمية.
وفي آخر تعريفات الرواية الجديدة (جداً) تفيد بأن الرواية معبّرة عن صوت الأقليات! والمقصود هنا بالأقليات – كما يُفهم- الهامشيون من المشردين والصعاليك الساخطين والضجرين، ومن فاقدي الهوية، وغير المندمجين في مجتمعاتهم، والمنبوذين من الجهات الرسمية ومن عامة الناس، وبشكل خاص المثليين ومن لفَّ لفهم! وهذا التعريف الغريب للرواية تلقفه عدد غير قليل من كتّابنا العرب واستجاب له بعض النقاد الجدد، ومنهم من تبناه بالمطلق، وراح يفتعل حالات افتراضية، أو متخيلة، أو موجودة على نطاق ضيّق ليكون معبّراً عن هذا النوع من الأقليات الاجتماعية، وهو لم يعرفها ولم يعايشها، متأثراً بهذه الموجة الجديدة من دعوات الرواية.
مما لا شك فيه أنَّ السرد نال اهتماماً إضافياً من المشتغلين بعلم الاجتماع، بوصفه تصويراً واقعياً للمجتمعات في مرحلة معينة، والمشتغلون بعلم الاجتماع يصرفون النظر عن الفن السردي، ولا يكترثون بلعبة الشكل أو التقنيات السردية أو حتى بجماليات السرد، ولا بالتجريبية أو المساعي التجديدية في أشكال الفن السردي، فالمحتوى عندهم دائماً هو الأهم، فهم ليسوا نقاد أدب، بل أكثر ما يعنيهم أن تقدم الرواية وصفاً مقطعياً عن المجتمع أو تصويراً واقعياً (توثيقياً) يمكن اعتماده كمرجعية أو مصدر لتأكيد نظرتهم أو أفكارهم حول مجتمع ما، أو حول نظرة الأدباء المحليين لهذا المجتمع ونظامه السياسي وتقاليده وعاداته وردود فعله ودور المرأة فيه.
إذاً بين هاتين النظرتين الغربيتين للأدب الروائي، يقع الروائي الجديد في خيبة كبرى، ويتمّ عزل الروايات التي تكون خارج هاتين الدائرتين، فتهمل وتهمّش! الروايات التي لا تخدم النظرة الاستشراقية والدراسات الأكاديمية الغربية، وتتحدث عن كفاح الشعوب ونضالها التحرري قلّما تحظى باهتمام المترجمين، وبالتالي لا أمل لهؤلاء في نيل الجوائز الممولة من الغرب. ولعلَّ هذا ما يفسّر توجّه بعض كتّابنا المحليين الجدد إلى أدب فضائحي أو هجائي، يستخدم للإدانة، وهكذا عن قصد أو عن غير قصد يقع بعض الكتّاب في مطب الاستجابة لعلاقات القوة في الثقافة المعاصرة، والوقوع في تأثيرات وأحابيل العقل الاستشراقي، وتكريس النظرة الاستعمارية حول المجتمعات الشرقية، والبناء على أساطير مفتعلة وزائفة لترسيخ الهيمنة الغربية وتعزيزها.