مجلة البعث الأسبوعية

استمرار مسلسل ارتفاع الأسعار رغم ثبات سعر الصرف.. بعض من ملابسات مشهد متناقض بحيثياته ومتلاطم بتداعياته..!.

البعث الأسبوعية – حسن النابلسي

شكل ارتفاع الأسعار -ولا يزال- الهاجس الأكبر للمستهلك.. وازداد هذا الهاجس حدةً خلال العام الحالي، إثر موجة التسارع التي اتخذت منحى تصاعدياً لدرجة بتنا على موعد جديد لسعر جديد على مدار الساعة، رغم الثبات النسبي لسعر الصرف على مدى شهور عدة، ليضحوا التجار على محك الاتهام المباشر بالتلاعب بالأسعار وممارستهم للاحتكار من جهة، وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك على محك التقصير والمتابعة والضبط لأسواق أتقن روادها التمرد ونسج علاقات التواطؤ مع المتنفذين لتمرير صفقاتهم المشبوهة على حساب المستهلك من جهة أخرى..!.

بداية الخيط

في الظل الثبات النسبي لسعر الصرف –الذي طالما كان هو المحرك الرئيس لارتفاع الأسعار- حاولنا تقصي ملابسات هذا المشهد المتناقض بحيثياته، والمتلاطم بتداعياته، ووجدنا أن بداية الخيط كانت من التذبذبات الحادة لسعر الصرف وانعكاسها المباشر على ارتفاع الأسعار، إذ بين الخبير الاقتصادي الدكتور علي محمد أن  موجة ارتفاع المستوى العام للأسعار بدأت بشكل واضح ومؤثر في سورية خلال الربع الأخير من العام 2018، متأثراً بشكل واضح بانخفاض سعر صرف الليرة أمام الدولار حينها، ومع بداية العام 2021 شهد الاقتصاد السوري ارتفاعاً هاماً بمستوى أسعار كافة السلع، والسبب الرئيسي في ذلك يعود لانخفاض سعر صرف الليرة أمام الدولار إلى مستوىً قياسي خلال العشر الأخير من شهر آذار، وهذا كان كفيلاً بارتفاع مضطرد بأسعار كافة السلع والخدمات، والتي كانت تسعر وفق أسعار صرف أعلى من الواقع وذلك في إطار التحوط الذي يتبعه التجار والمصنعين، وتقدر الارتفاعات التي طرأت بنحو30% إلى 50% خلال تلك الفترة.

تحسن ولكن..!.

بعد هذه الموجة الحادة لتذبذب سعر صرف الليرة، عاود الأخير للتحسن نوعاً ما خلال شهر نيسان 2021، وبقي مستقراً نسبياً لغاية اليوم مع تقلبات بهامش 5% زيادة ونقصاناً أي بواقع 150 ليرة، إلا أن ذلك لم يشفع –حسب محمد- للأسعار بالانخفاض أو الاستقرار بأدنى الحالات، لكون السعر لأي سلعة أو خدمة يتحدد عملياً ويتأثر بجملة من العوامل تأتي تكلفة المنتج بالدرجة الأولى، ومقدار الدعم الحكومي النقدي والمالي والإجرائي بالدرجة الثانية.

مسببات

ضمن سياق سردية ارتفاع الأسعار سرعان ما يطفو على السطح عنصر “التكاليف” ودوره المؤثر بمنظومة ارتفاع أسعار السلع والخدمات، لنجد أننا أما جملة من الأسباب لا يمكن تجاهلها في هذا الشأن، يتصدرها تكلفة المشتقات النفطية والكهرباء، وهنا ويبين محمد أن قيام الحكومة السورية بالرفع المتتالي للدعم عن المشتقات النفطية يعد أحد أسباب ارتفاع تكاليف المنتجات كافة سواء المنتجة محلياً ولاسيما التي تعتمد في صناعتها على المازوت أو الفيول أو الكهرباء، أو تلك المستوردة، مشيراً إلى أن المازوت الصناعي ارتفع من 185 ليرة إلى 296 ثم إلى 500 ثم إلى 650، ومؤخرا إلى 1700 ليرة، أي أننا نتكلم عن ارتفاع بلغ مؤخراً 820%، وكذلك الفيول فقد ارتفع خلال عامين من 217 ألف ليرة للطن إلى 290 ألف ثم 333 ألف ثم 510 ألف، ومؤخرا في 24\08\2021 ارتفع إلى 620 ألف ليرة للطن، أي أننا نتكلم عن ارتفاع بلغ مؤخراً 185%، وكذلك الأمر بالنسبة للكهرباء والتي ارتفعت حسب الشرائح مؤخراً، وكان الارتفاع الأكبر من نصيب الكهرباء التجارية.

ما سبق يعني أن التكلفة الخاصة بالمشتقات النفطية قد ارتفعت بشكل جلي، وهذا يعني ارتفاع تكلفة المنتج النهائي، وإذا ما أسقطنا ذلك على الألبان والأجبان واللحوم الحمراء والبيضاء على سبيل المثال لا الحصر، فالمداجن والمسالخ ومزارع تربية وتسمين العجول تعمل على الكهرباء، وبدونها تضطر للعمل بالمولدات وشراء مادة المازوت من السوق السوداء وبأسعار مرتفعة، وكذلك الفراخات للصيصان، يضاف لذلك أجور النقل والتوزيع.

قرارات نقدية

المسبب الثاني في ارتفاع التكاليف هو القرارات النقدية الخاصة بتمويل المستوردات، وهنا أوضح محمد أنا إذا ما قمنا بتحليل أسباب ارتفاع المواد الغذائية والمنتجات الزراعية على سبيل المثال، فبالإضافة للأسباب آنفة الذكر التي ذكرناها فيما يتعلق بالمشتقات النفطية، يأتي عدم تمويل المصرف المركزي لمادتي الأعلاف والأسمدة من العوامل المؤثرة جدا على التكلفة، فقائمة تمويل المستوردات كانت تضم 40 مادة في 29\04\2019، وعدلت لتصبح 10 مواد بتاريخ 09\12\2021، ومن ثم 18 مادة مقسمة إلى جزئين كل منهما على سعر رسمي مختلف دون تمويل للأسمدة، وبتاريخ 03\06\2021 تم تعديل القائمة وحصرها بـ 6 مواد وبعدم تمويل الأعلاف، متزامنا مع قرار آخر برفع سعر الأسمدة المباعة للفلاحين لارتفاعها عالميا ولتخفيض الدعم الموجه لذلك، وكان ذلك بالتزامن أيضا مع ارتفاع أسعار الأعلاف عالميا، والتي ارتفعت بنسبة تتجاوز 35% نهاية شهر 9\2021 لأسباب متعددة لن نخوض بها الآن، وهذا ساهم بشكل كبير في ارتفاع كل ماله علاقة باللحوم وبالألبان والأجبان والبيض، وبالمنتجات الزراعية أيضاً.

عزوف

يأتي انخفاض الإنتاج الزراعي كمسبب ثالث بارتفاع التكاليف، فإذا ما سلمنا أن الإنتاج الصناعي منخفض بحكم الحرب وتبعاتها، إلا أن ما تقدم وسبق ذكره ساهم أيضاً بانخفاض الإنتاج الزراعي بشكل هام لارتفاع التكاليف بشكل كبير وعزوف المربين والمزارعين عن العمل، فمثلا وبحسب بعض التقديرات، فإن إنتاج سورية من الفروج بلغ بالعام 2020 نحو 35 ألف طن لحم فروج فقط، مقارنة مع 180 ألف طن في العام 2010، والبيض بحدود 700 مليون بيضة مقارنة مع 5.5 مليار بيضة في العام 2010.

سبب عالمي

كان ارتفاع الأسعار عالمياً –بطبيعة الحال- مسبباً آخر بارتفاع التكاليف، إذ إن العالم أمام موجة غلاء كبيرة في كافة السلع الزراعية والسلع الأخرى نتيجة لمجموعة من الأسباب أوردها محمد، تتصدرها أزمة الطاقة في أوروبا وصعوبة استقرار توريدات الغاز إلى أوروبا، متزامناً مع التغيرات المناخية السلبية التي تضرب مراكز الإنتاج الزراعي والصناعي من حرائق وفيضانات، وجاءت أزمة الشحن البحري وارتفاع أسعار النفط عالمياً لتزيد من تكاليف المنتجين والمستوردين، والتي تضاعفت خلال العام الحالي قرابة 6 أضعاف، ومع انحسار وباء كورونا زاد الطلب على المنتجات عالميا مقارنة بالعام 2020 مع نقص المعروض، فارتفعت الأسعار تلقائيا.

يضاف إلى ما سبق من مسببات، العقوبات الاقتصادية وصعوبة الاستيراد وتكلفة التحويلات المالية وغيرها.

تساؤل عريض

وختم محمد حديثه لـ”البعث الأسبوعية” بتساؤل عريض: ماذا حل بالقرار رقم 2098 الصادر عن السيد وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك بتاريخ 17\07\2019 والقاضي بإلزام مستوردي القطاع الخاص للمواد الممولة من قبل المصارف بتسليم نسبة 15% من مستورداتهم بسعر التكلفة لكل من السورية للتجارة والمؤسسة العامة للحبوب ومؤسسة عمران وبعض شركات وزارة الصناعة والمؤسسة العامة للأعلاف..؟

برسم المعنيين

بينما نضع هذا التساؤل برسم الجهات المعنية، عسى أن تتخذ ما يتوجب اتخاذه، وانعكاس ذلك على الأسعار ولو نسبياً، نبين إن عدم وجود مؤشر اقتصادي كلي يمكن أن يشرح تغيرات الأسعار في الاقتصاد السوري يدل على مسؤولية الحكومة التي  تتحمل القسم الأكبر عن فلتان الأسعار، ويتجلى ذلك بشكل أساسي من خلال عدم وجود أية سياسات حكومية على المدى المتوسط والمدى الطويل لاستقرار الأسعار، مع الإشارة هنا إلى أنه يتم الحديث دوما عن إجراءات آنية لتخفيض الأسعار بعد كل ارتفاع وليس قبله، فتلجأ الحكومة إلى حلول إسعافية تحمل طابع إعلامي مع عبارات إنشائية مثل: التشدد في قمع التهريب ومنع  تصدير عدد من المواد الغذائية بصحبة المسافرين والطلب من مؤسساتها التابعة تأمين السلع والأغذية بأسعار مناسبة أو الطلب من القطاع  الخاص أسعاراً مقبولة لمستورداته، خدمة المجيب الآلي في مديريات التجارة الداخلية بالمحافظات عن أسعار السلع الرئيسية المتداولة في الأسواق …الخ من الخطوات التي لا تسمن و لا تغني.

كما أن الحكومة لا تمتلك أي تنبؤات عن التضخم أو التغييرات المستقبلية في الأسعار أو حتى رقم رسمي للتضخم والرقم الرسمي المتوفر يعكس تغيرات الرقم القياسي لأسعار المستهلك وبالتالي غياب سياسات لاستهداف التضخم كالقول مثلا إن الحكومة تسعى خلال فترة الخمسة سنوات القادمة إلى الوصول إلى معدل تضخم حوالي 5%.

ومن العوامل التي أثرت على المستوى العام للأسعار هو تعدد الحلقات الوسيطة بين المنتج و المستهلك حيث لوحظ أن هناك فجوة بين أسعار الجملة وأسعار التجزئة لا تقل عن 30 %.

كذلك أجور اليد العاملة الزراعية أصبحت من العوامل المؤثرة بشدة على أسعار بعض المنتجات الزراعية مثل الزيتون حيث لا تقل أجرة العامل الزراعي عن ثلث ما يقوم بقطافه.

رتب عدم قيام الحكومة بمسؤوليتها نتائج عديدة أهمها نمو ظاهرة الاحتكار الذي لا نستطيع قياسه لكن نحس به وخاصة بالنسبة للسلع الغذائية الأساسية، فهناك من يتحكم بأسعار الخضار والفواكه، أسعار السكر، الرز ..الخ. بالرغم من ظاهريتها أنها تخضع لقانون العرض والطلب، كما أن فوضى السوق مترافقة مع غياب دراسات حقيقية عن التكلفة تلعبان دورا مهما في فلتان الأسعار، فعند ارتفاع سعر أي سلعة رئيسية (مازوت، اسمنت، بنزين الخ ) نلاحظ أن أسعار المواد المرتبطة بهذه السلع و قد ارتفعت بنفس النسبة أو حتى أكثر وكأن السلعة مكونة بالكامل من المازوت أو الإسمنت، والأمر الآخر الذي ساعد على هذه الفوضى هو العوامل النفسية المرتبطة بالبائعين والمستهلكين، فالبائعين والمنتجين لا يوفرون أية فرصة لرفع الأسعار إلا ويتم استغلالها بسبب الرغبة في أرباح إضافية، فيكفي لسبب ما أن يرفع أحد البقالين سعر الحليب أو اللبن حتى يقوم كل بائعي الجوار برفع أسعارهم.