“هبة الكرامة ” أقرب بكثير مما يتوقعه الصهاينة
البعث الأسبوعية- محمد نادر العمري
المتابع للشأن الداخلي للكيان الصهيوني، يلمس وبحالة لا لبس فيها، تكرار ما يمكن وصفه بالمشهد المستمر من التخوف والترقب والحذر. هذا المشهد يتجلى بصورة دائمة في تصريحات المسؤولين الإسرائيليون وفي اجتماعاتهم المغلقة، والتي تركز جميعها على المخاوف من اندلاع انتفاضة ثالثة أو مابات يعرف “بهّبة الكرامة2”. لقد باتت الظروف الموضوعية والبيئة المتغيرة تكرس حالة القلق بالنسبة للصهاينة بعد تمكن حركات المقاومة في داخل الأراضي المحتلة من خلق نوع من توازن الردع وقلب الطاولة على جيش الاحتلال وحكوماته بشكل خاص، بعد أن تفننت حكومات الكيان الصهيوني في تصفية القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني على مدى عقود سابقة من خلال الدعم الغربي والذي تمثل بدعم بريطاني ومن ثم أمريكي، وعلى مختلف المستويات السياسية من خلال التوصل لاتفاقات سلام منفردة لا يكون فيه للطرف العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً أي حق لفرض الشروط على الصهاينة والمطالبة بالحقوق، ولعل ملف عودة اللاجئين والاعتراف بالسيادة الفلسطينية هما خير مثالين على ذلك.
هذا الوضع الذي تمكنت حركات المقاومة وإرادة الشعب الفلسطيني المقومة من تغيره بعدما ساد لعقود سابقة فائتة لتسقط معه معظم جوانب ومجالات التفوق، استناداً على وجود إرادة شعبية فلسطينية في البحث عن امتلاك وتطوير كل الوسائل المتوفرة والمتاحة للوصول لهدف تحرير الأرض واستعادة الحقوق بل انتزاعها بالقوة بعد فشل الرهان على أي تسوية سياسية، وكان أبرز هذه التحركات الشعبية الفلسطينية ثورة البراق 1929، مروراً بانتفاضة عام 1987، والانتفاضة الثانية التي شهدتها فلسطين المحتلة عام 2000، وصولاً لما عبرت عنه هذه الإرادة الشعبية مؤخراً في التصدي لغطرسة الاحتلال وواجهت عنجهيته وقوته العسكرية بالصدور العارية لحماية حي الشيخ جراح، والتي شكلت نواة المواجهة الأخيرة بين الكيان الصهيوني وفصائل المقاومة الفلسطينية، وانتهاءً بالعمليات الفدائية داخل مدينة القدس بعد فشل عدوان “حارس الأسوار” على قطاع غزة والتي مهدت له “هبة الكرامة1”.
ما يراد قوله من استعراض المعطيات السابقة، هو أن الإرادة الشعبية شكلت بالدرجة الأولى العامل الأساسي والمحرك لفعل ونشاط وحراك واستمرار حركات المقاومة، وهو عامل مؤثر على تركيبة الرأي العام الغربي في هذه الفترة نتيجة التطور الحاصل على وسائل الاتصال وعدم احتكار التغطية على الوسائل الموالية للكيان والتي تمكنت خلال عقود سابقة من تزييف الحقائق.
لذلك يخشى الكيان أن تشكل عوامل النصر العسكري للفصائل المقاومة زيادة في الحاضنة الشعبية لها، وتنوع أشكال المقاومة الممكنة مقابل تراجع معنويات الصهاينة، وفشل الكيان والولايات المتحدة الأمريكية وبعض الأنظمة العربية من تمرير ما عرف بـ “صفقة القرن” بكل بنوده، وفشل المشاريع التدميرية في المنطقة والتي استهدفت سورية وإيران ولبنان، فضلاً عن وعي الرأي العام الغربي وإطلاعه على ما يجري بموضوعية لما يحصل داخل الأراضي المحتلة، فضلاً عن تردي الأوضاع الاقتصادية للعرب الفلسطينيين وصعوبة حياتهم المعيشية في ظل انقسام سياسي فلسطيني، كل ذلك تشكل مروحة من العوامل والأسباب لنواة انتفاضة ثالثة قريبة أو ما بات يعرف بـ “هبة الكرامة 2”.
الملاحظ هنا والمثير للاهتمام، هو أن توقع هذه الانتفاضة يأتي من قبل العديد من النخب السياسية والعسكرية الصهيونية أولاً، ولكن الأهم الإيقان التام والخشية في هذا الوقت ألا تكون ساحتها قطاع غزة بل الضفة الغربية ومدينة القدس التي وصفهما تقرير حديث لمركز “بيغن” للدراسات بأنها : ” تقف على جمرات بركانية وفوقها طبقة رقيقة من الرماد”، وهو ما عبر عنه صراحة الجنرال المتقاعد من جيش الاحتلال “آفي يسخاروف” في مقال نشرته صحيفة “معاريف” بقوله : ” إن المشاهد الميدانية القادمة من الضفة الغربية ومدينة القدس تذكر الإسرائيليين بأيام الانتفاضة الثانية، فبينما تترقب كل الأنظار إلى قطاع غزة في محاولة لضبط ايقاعها واستمرار الهدنة فيها، فإن هناك أحداث ما تتحرك في الضفة الغربية والقدس اللتان يبدو أن ساحتهما لم تعد هادئة كما كانت في السنوات الأخيرة”.
هذا الوصف الدقيق من المخاوف والتحذير الأمني الداخلي، لا يصنف ضمن رأي صحفي، أو تحليل عبثي، بل تكمن أهميته وجديته من خلال معرفة النقاط التالية:
أولاً: يعتبر “آفي يسخاروف” من الشخصيات المقربة من الدوائر الأمنية والعسكرية وشغل لفترة عقد من الزمن حتى نهاية عام 2020، مستشاراً للشؤون الأمنية للكبينت أو ما يعرف بالحكومة المصغرى.
ثانياً: إن الظروف التي أشار إليها “آفي” هي جادة وموضوعية تناولتها الكثير من الدراسات الأمنية وحتى منها الأمريكية وفي مقدمتها “معهد كارنيغي” لدراسات الشرق الأوسط نهاية شهر أيار الماضي، حيث أكد المركز في أحد دراساته حول الوضع في منطقة الشرق الأوسط “بأن الشعب الفلسطيني يزداد تمسكاً بخيار المقاومة، بعدما ضاق ذرعاً من الوعود الغربية والحصار الكبير عليه وتخاذل العرب وتزايد المستوطنات في ظل عجز الأمم المتحدة على تطبيق القرارات الدولية، لذلك فقد يتجه هذا الشعب نحو انتفاضة جديدة تعكس توازن القوى بصورة تسمع صوته وتعزز من القبول ببعض مطالبه استناداً لما حققته الفصائل المقاومة عسكرياً وما شهدته المناطق المختلطة داخل أراضي 48 من تحركات، وتراجع القدرة الأمريكية على حسم الحروب لصالحها وصالح حلفائها بعد انسحابها من أفغانستان، وتمسكها بالخيار السياسي والدبلوماسي في مفاوضاتها مع إيران وهو ما منح روسيا منطلقاً لتعزيز وجودها وعلاقاتها في المنطقة بما في ذلك تبنيها لبعض مطالب الشعب الفلسطيني”.
ما يرجح هذا السيناريو هو توافر العديد من الظروف الموضوعية والذاتية التي قد تشكل مقومات حقيقية لانتفاضة قادمة، وتتمثل أبرزها في ازدياد حدة الانقسام السياسي الفلسطيني، وعدم التوافق حتى اليوم على صيغة من المشاركة السياسية لمواجهة الاحتلال وهو وضع يرفضه الشارع الفلسطيني المنتشي معنوياً بعد المعركة الأخيرة التي أذلت الصهاينة، كما تعتبر القيادات الأمنية الصهيونية بأن انتشار “المالتوف” أو ما يعرف بالزجاجات الحارقة هي منتشرة وتستخدم بشكل كبير في الضفة أثناء المسيرات الأسبوعية و عبر عمليات الإلهاء الليلي، التي استنزفت الاقتصاد الإسرائيلي بشكل مرهق، فضلاً عن ورود تقارير تفيد بأن الشبان الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس تلقوا تدريبات نظرية عبر شبكات الانترنت على الأسلحة من قبل الفصائل في قطاع غزة، لذلك تبدي الأوساط الصهيونية مخاوف من أن يؤدي ذلك لسقوط اتفاقية أوسلو بين الكيان والسلطة الفلسطينية، وأن تتحول الضفة أو القدس أو كليهما لساحة انتشار وتمدد للمقاومة الشعبية، مع تزايد وجود الأسلحة فيها وهو ما يشكل خطراً على جنود جيش الاحتلال وقادته ويزيد من تدهور المعنويات للمستوطنين الصهاينة الذين فقدوا معظم ثقتهم بقياداتهم السياسية والأمنية والعسكرية، حتى البعض منهم سواء كانوا أفرادً أو جماعات باتت تطالب حكومتهم بتوقيع اتفاق سلام مع الفلسطينيين نتيجة الرعب الذي بات يقلق ويسود تفكيرهم.