الأخلاقي
ناظم مهنا
تعيدنا حقائق الحياة، بين الفينة والأخرى، إلى المعاني الأخلاقية الكلاسيكية، التي كنا نظنُّ لوهلة أنها مضت إلى غير رجعة، وتثبت لنا التجربة صحة المقولة التي تقول: “شجرة الحياة دائمة الخضرة والنظرية رمادية اللون”.
كُتب الكثير عن إنسان ما بعد الحداثة: الإنسان التقني، النفعي، اللاعاطفي .. وانتشرت كتابات تدعو إلى الفرداني ضد الكلياني أو ضد الشمولي، أي الإنسان المنفصل عن الجماعة والذي يعمل لمصلحة ذاته، وبلغة فلسفية: لا يوجد أحد خارج الأنا! وجاءت هذه الأفكار، التي يعتقد البعض أنها مهمة ومبتكرة، ضمن سياق تبرير الارتدادات، والتفلّت من أي مسؤولية أو التزام، وعلى أنها من صميم الليبرالية الجديدة التي تصرفت في العقدين الأخيرين على أنها ثقافة منتصرة ومهيمنة، لا يقف في وجهها أي فكر، وعمدت بسطحية شديدة ولا أخلاقية إلى تسفيه كل فكر إنساني أنجزته البشرية.
هؤلاء يرون أن قيمة الإنسان تكمن في كونه مستهلكاً! إنهم يبحثون في الزوايا المهملة وينقبون تحت الجدران عن بقايا قوميات نسيها أبناؤها! وتأتي المسائل المهمة تالياً، تتقدم أو تتأخر حسب المكان والزمان والمصلحة، ولا شيء هنا أعظم من المصلحة! فما أكثر ما يروجون لإنسان المصالح، ولا يعجبهم في تاريخ العالم سوى عقيدة واحدة، من يتبعها فهو الإنسان السعيد، الإنسان الصالح! ألا وهي الإنسان (البراغماتي).
ولا يشعر أصحاب هذا الاتجاه التبريري بالمأزق، ولا يرف لهم جفن، حتى وهم مهزومون ينتظرون الربح! وهم يتحصنون بالجمعيات الحقوقية والمنظمات الدولية، المهيمن عليها، ويطلقون عليها صفة “المجتمع الدولي”! وحقيقة الأمر أن هذه الدعوات، هي قناع يخفي المصالح، وفيها ازدراء مبطن للفكر وللإنسان! فالعالم في نظر هؤلاء هو أسواق ومستهلكون! وقيمة الإنسان تكمن في مقدرته على الشراء والاستهلاك، والمجتمعات هي مجموعة أفراد من المستهلكين، ومدنهم وقراهم ليست سوى أسواق ناشطة، وإذا لم يخضعوا لإرادة القوة، يُحاصرون، وتُصدّر لهم الأزمات والحروب والسلاح، ليفتكوا ببعضهم، ثم يعاد تشكيلهم من جديد، وبعد تدمير كل شيء، يهرعون لبناء ما هدموه من حساب ثروات الشعوب المنكوبة!
هذه الممارسات المتوحشة تؤدي بالعالم إلى الهلاك، وبالبشرية إلى العبودية الشاملة، والخاضعة – أفراداً ومجتمعات – إلى منظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، وسياسات الهيمنة الدولية! وبالتالي في هذا العالم الجديد، عالم الإنسان التقني الشيئي، المغترب عن إنسانيته، لا مكان للذاكرة وللأخلاق! لكن الإنسان الذي يعي إنسانيته، يدرك دائماً أن أخلاقاً كلية تربطه بالعالم، ولا بد من أن يتصرّف كإنسان أخلاقي مع ذاته ومع الآخرين ومع الطبيعة. هذا الإنسان، مهما احلولكت الأجواء، يبقى حاضراً عبر الزمن، ولولاه لصار الإنسان حيواناً، بل وحشاً خطراً يُمعن في الفتك والتدمير!
الإنسان الذي يعي إنسانيته هو إنسان أخلاقي، ممتلئ، سمح، مرتاح الضمير، يعمل وفق الواجب، وهو بهذا لا ينتظر مكافأة ولا جزاء. وعندما ترسخ ثقافة الواجب، وعلاقات الثقة بين الناس، يسير كل شيء وفق السياق الحضاري لمعنى الإنسان الذي ما فتئ يقاوم كل محاولات تفريغه من المعنى، وتسفيهه، والنظر إليه على أنه زائد عن اللزوم.
الإنسان الأخلاقي، يشعر دائماً بالمسؤولية حيال إنسانيته، فيتحاشى العدوان والتدمير، ويحترم حياة الناس وعاداتهم ومعتقداتهم دون أن يدعي ذلك، وهو ثقافياً لا يرضخ للمقولات السلبية الشائعة في ثقافة التشاؤم التي تقول إن الإنسان ليس سوى فرد في قطيع، تحركه الغرائز الحيوانية، بل على العكس يرى أن الإنسان صانع حضارات، ووريث قيم كونية أعمق من أن تزول.