اتفاقيات “أبراهام” وصف غريب في العلاقات الدولية هدفه إعادة تشكيل الوعي العربي والفلسطيني
البعث الأسبوعية- علي اليوسف
إن مفردات ومصطلحات وتصريحات كثيرة مرت في مجرى خطط الكيان الصهيوني من دون أن يتوقف عندها أحد لفحص مضمونها وما تخفيه من أسرار ونيات، وبالطبع هذا يتطلب جهداً مضاعفاً لفهم ما تخفيه التصريحات والمفردات المستخدمة للدلالة على ماهية هذه الخطط، وماهية الاتفاقيات التي يوقّعها الكيان المحتل بين ليلة وضحاها بأسماء مثيرة بين فترة وأخرى. وبما أن الباحث العربي يعمل وحيداً على عكس مراكز الأبحاث العالمية التي تعمل بطواقم متخصصة، فليس غريباً أن تغيب عنه معلومات أساسية لا يمكنه من دونها أن يرى الصورة بشكل واضح، أو يقرأ ما بين سطور التصريحات ومعاني المفردات المستخدمة.
اتفاقيات “أبراهام” على سبيل هي وثيقة أطلق عليها مسمى “الولايات المتحدة الإبراهيمية”، وهذه الوثيقة صادرة عن جامعة فلوريدا من مركز أبحاث للدراسات البيئية، وليس سياسية يدعى / اينيرجي/ وهي الوثيقة التي يعمل عليها بايدن بعد أن بدأ ترامب العمل عليها، حيث تتكلم الوثيقة عن تغيير المناخ السياسي في المنطقة والذي قال حوله بايدن ” حان الوقت للتغيير”.
حقيقة الرواية
تبدأ الرواية للوثيقة بأن خارطة توزيع الموارد متواجدة في الشرق الأوسط، لكن الدول التي تمتلك هذه الموارد تفتقد لحوكمة وإدارة تلك الموارد، حيث يقتصر دورها على استخراج تلك الموارد وتصديرها كمواد، بسبب عدم وجود تقنيات وتكنولوجيا لإدارة وترشيد واستخدام عوائد تلك الموارد.
وتتكلم الوثيقة عن أربع موارد رئيسية هي النفط، والغاز، والماء، والأرض، لكن المستغرب هنا دخول الأرض ضمن هذه الموارد، أي أنهم يتكلمون عن من سيدير هذه الموارد، لذلك تدعو الوثيقة إلى إسقاط الدول العربية مقابل إقامة “اتحاد فيدرالي” ترأسه “إسرائيل” بسبب تفوقها التكنولوجي. وهنا تطرح الوثيقة تساؤلاً لماذا أو كيف تقبل الشعوب العربية أن تحكمها “إسرائيل”؟. هذا السؤال له إجابة خطيرة جداً لدى الوثيقة هو أن سكان المنطقة من عائلة النبي إبراهيم، أي أنه يوجد مشترك إبراهيمي، بمعنى أن سكان المنطقة في الأساس هم من أسرة إبراهيمية واحدة تربطها الأخوة الإنسانية، لكن إلى أين سيؤدي هذا الكلام؟.
كل المعطيات تشير إلى أنه في غضون سنوات قادمة سيعلن عن “اتحاد فيدرالي” على النموذج الأمريكي، وهذا ما قاله فوكوياما: “نهاية التاريخ من خلال نموذج السياسة الأمريكية في العالم”، وبالتالي سيطبق هذا النموذج على “الاتحاد الفيدرالي”، وأن التكنولوجيا التي تمتلكها “إسرائيل” هي من يشرّع حكم إسرائيل في المستقبل.
النظام التركي ودوره الوظيفي
قبل أن تأتي خطوة حكم “إسرائيل”، لابد من إدخال دولة تؤدي دور وظيفي مؤقت ريثما تنضج الترتيبات، وهذه الدولة هي تركيا، لكن لماذا تركيا؟. في هذا المناخ لا يقبل الشعب العربي والإسلامي أن تحكمه “إسرائيل”، أما تركيا فهي دولة إسلامية، وهي عضو في حلف “الناتو”، وعلاقاتها قوية مع “إسرائيل”. صحيح أنها وقفت ضد التطبيع والدول التي طبعت مع إسرائيل، إلا أن هذا هو الدور المناط بها ، أي أنها كانت تكذب على الدول العربية وتتاجر بالقضية الفلسطينية، لأنها من أحد الدول المطبعة مع الكيان الصهيوني، وهي أول دولة اعترفت بالكيان الإسرائيلي، وأقامت معه اتفاقيات اقتصادية. إذن هي تقوم بدور مؤقت، بحيث تبتعد لاحقاً عن المشروع، لأنه بالنظر إلى ما يسمى خارطة “الولايات المتحدة الإبراهيمية” فهي تمتد من النيل إلى الفرات، وهي خارطة ما يسمى “إسرائيل الكبرى”.
وهنا يتبادر سؤال آخر هو ما هي الخطوات التي بدأت تجعل هذا التصور الراديكالي ليس خيالاً ويجد حقيقته على الأرض؟. لقد بدأت الخطوات الحقيقية منذ فترة وآخرها:
- شيطنة ايران وتحويلها الى العدو الخطير لكل دول المنطقة.
- ثورات الربيع العربي وما تلاها من موجات الفوضى.
- فشل الدولة القومية، وخير مثال عندما وصل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى لبنان قدم له أكثر من /40000/ مواطن لبناني طلباً يرجونه بعودة الانتداب الفرنسي، أي عودة الاستعمار القديم، وكان رده حرفياً لن أعيد حقبة الانتداب لهذه الدولة وهذه المؤسسات، وإنما للمجتمع المدني، وهو ما يؤكد العمل على إفشال أو إلغاء الدولة القومية ومؤسساتها.
- الإرهاب، حيث بدأ الحديث بعد ارتفاع حدة الارهاب عن الارهاب الديني، وبدأت تتعالى الاسئلة هنا وهناك لماذا الارهاب في الشرق الاوسط لا يشبه الارهاب في دول العالم، لماذا لا يشبه “المافيا” في دول أمريكا، والجواب ليس صعباً فالحركات الارهابية هي منظمات ليست لأغراض اقتصادية واستحواذية وسلطوية، إنما هي منظمات تتحرك بدوافع دينية، بمعنى أن سلوك أتباع هذا الدين وما يقومون به يدل على شكل هذا الدين، أي أن من يرفع السلاح هو ليس إرهابي إنما الدين الذي يتبعه هو الارهابي.
أمام هذه المعطيات من الطبيعي أن تدفع هذه السياسة المواطنين لعدم الحديث عن صراع الأديان بعد أن تكون قد سأمت هذا الحديث، وأنه بدلاً من ذلك من الضروري الحديث عن “المشترك الإبراهيمي والديني” من أجل العيش بسلام.
هذا الترتيب لا شك أن له ترتيبات سابقة كالعيش المشترك، وأن اليهود كانوا من سكان المنطقة، لذلك بعد عمليات التطبيع بدأت عدد من المحطات الاعلامية العربية بالحديث عن هذا الجانب، وأن اليهود كانوا من سكان الجزيرة العربية. ثم جاء الحديث عن من سيمول اتفاقيات التطبيع، وهي بلا شك دول الخليج القادرة على هذا التمويل، وهو ما باتت تعمل عليه وسائل الاعلام ومراكز الدراسات الاسرائيلية .
الوصف الغريب
“السلام الإبراهيمي” وصف غريب في العلاقات الخارجية والعلاقات الدولية، لأنه عندما يتم توقيع اتفاقيات بين دولة ودولة أخرى تسمى الاتفاقية في المدينة التي حصل فيها الاتفاق، لكن لماذا اتفاقيات التطبيع تم تسميتها باسم النبي إبراهيم والتي عرفت باسم اتفاقات “أبراهام” هذا أمر غريب، لكن الواقع هو التوظيف الديني في المسار أو القضية السياسية، والأهم من ذلك أن ترامب وبايدن متفقان على المسمى “أبراهام”.
لكن لماذا استخدم النبي إبراهيم ؟. في عام 2000 قامت جامعة “هارفرد” بتكليف فريق بحثي في هذا المجال وخرجت بنتيجة أن اسم ابراهيم يوجد في عائلات يهودية ومسيحية ومسلمة، بمعنى أن هناك اتفاق على الاسم بين جميع الاديان. كما خرجت الدراسة أن ابراهيم كان جزع شجرة الاديان ثم انتشرت من حوله جميع الأديان، وقالت الدراسة أنه من الضروري الركون للنص الديني المتفق عليه، وطرحت سؤالاً هل يحق للشعوب الأصلية في العيش المشترك على الخريطة السياسية بناءً على ما سيتفق عليه رجال الدين.
إن كلمة الشعوب الاصلية لها دلالات كبيرة في هذا السياق، لأنه في الامم المتحدة هناك اتفاقية باسم ” اتفاقية الشعوب الأصلية” تم توقيعها عام 1990، تنص الاتفاقية على أنه يتم التأكد من الشعوب الأصلية من خلال العامل الديني، والوثائق والتراث، ومن الذين تم تهجيرهم تهجيراً قسرياً. وتنص الاتفاقية على إعادتهم الى موطنهم الأصلي وإعطائهم تعويضات مالية كبيرة.
لذلك تعمل اليوم مراكز الابحاث الاسرائيلية على ما يسمى “أبراهام موفمنت” أو الحركة الابراهيمية للسلام، حيث قدم “شاؤول عوف” مدير هذه الحركة هذه الصيغ للطرح، كي تكون خطة عمل عندما تتم دعوة الفلسطينيين للتفاوض. ويضاف الى ذلك التمهيد الفعلي على الأرض وقد تجلت هذه الصورة بالحديث عما يسمى العبادة الشعائرية المشتركة، وبالفعل بدأت هذه الشعائر عندما تمت الدعوة الى ما سمي “صلاة الكورونا” المشتركة، أي صلاة الاخوة الانسانية في 14 أيار الماضي – يوم النكبة- وقد جاءت هذه الدعوة من بابا الفاتيكان.
الخطورة على الوعي العربي
تكمن الخطورة في محاولة القائمين على الفكرة إلى إعادة تشكيل الوعي العربي والفلسطيني ليكون أكثر تقبلاً لوجود “إسرائيل” المحتلة بغطرستها، وبما يخدم تنفيذ مخططاتها، ويستند هؤلاء في روايتهم الدينية من خلال إجراء مقاربات دينية وفق تصورهم المريض، كما وتظهر خطورتها في أن ملكية أرض مسار النبي إبراهيم في رحلته والذي حل ضيفاً فيها على مدينة الخليل وأهلها، ليس لشعوب المنطقة وسكانها الحاليين بل هي أرض إبراهيمية عالمية، وقد أكد وليام يوري رئيس مبادرة “مسار ابراهام” في هذا الشأن أنه لا يوجد ولاء للحدود، ويجب أن يكون الولاء للفكرة، وبالتالي لا توجد ملكية للاماكن المقدسة. وعلى المستوى السياسي قامت الولايات المتحدة الامريكية من أجل تحقيق هذه الفكرة بطرح كثير من المبادرات والصفقات التي من شأنها أن تنهي قرارات الشرعية الدولية الخاصة بالعرب وبالحق الفلسطيني، أي إزالة الحدود السياسية الحالية، وقد أكد الرئيس الامريكي السابق ترامب أن “صفقة القرن” للمنطقة ككل، وهذا يؤكد أن صفقة القرن بالنسبة لفلسطين قد تكون البداية فقط، فخريطة ما يسمونه “مسار إبراهيم” تقطع المدن الفلسطينية من المنتصف، وهذا يعني أنه لا توجد اراضي فلسطينية وفق هذا المخطط، ومن المخاطر أيضاً تهيئة المناخ الملائم للنظام السياسي الجديد، وهذا يقتضي تحقيق فكرة التطبيع من أجل قبول وجود “إسرائيل” في المنطقة .
إن الحقيقة الهامة التي يجب ادراكها أن خطر هذه الدعوة للإبراهيمية ما هي إلا تدمير للمنظومة القيمية الأصيلة التي تعيشها المنطقة، وإبدالها بأخرى هجينة منحرفة هدفها تحقيق غاية من غايتين أو الغايتين معاً وهما نشر الدعوة الملحدة و تفتيت رمزية القدس كمكان مقدس، والغايتان مجتمعتان أو منفصلتان تشكلان خطراً كبيراً على كافة الديانات السماوية وعلى كافة شعوب المنطقة. من هنا “الإبراهيمية” هي دعوة للقبول بالإجرام الصهيوني والإغتصاب الوحشي لأرض فلسطين التي يعيش عليها شعب كامل يتعرض للإبادة الجماعية، لأن الكيان الصهيوني لا يفكر بالسلام ولا يمكن له أن يكون طرفاً في تحقيقه في المنطقة العربية، لأن سلام المنطقة وأمنها هو التهديد الحقيقي لوجود هذا الكيان غير الشرعي الإستيطاني العنصري.
لذلك إن من مصلحة الكيان الصهيوني، ومن برامجه وخططه التي قطع فيها شوطاً طويلاً، هو إذكاء صراعات مزمنة في المنطقة تجعل وجوده آمناً ومستقراً فيها، وإن دعوته هي أشبه ما تكون دعوة للقبول بالعبودية القهرية.