حمل فلسطين في قلبه ورحل
“البعث الأسبوعية” سلوى عباس
بينما سنة 2021 تلملم أوراقها في يومها الأخير أخذت معها أعزاء جمعتنا بهم الحياة وتقاسمنا معهم رغيف أفراحها وأحزانها، فاليوم نودّع قامة إبداعية رفعت مرساتها باتجاه الشاطئ الآخر، حيث يغادر الشاعر خالد أبو خالد مملكة الشعر وساحات النضال ليلحق بقامات شعرية ونضالية اختطفها الموت في غفلة الحياة.. يرحل أبو خالد الذي أعطى الشعر والحياة نداوة روحه وعمره، فشكلت قصيدته شجرة وارفة العطاء لاتنضب، قصيدة خلّدته رمزاً للمقاومة لتصبح الكلمة رئته التي يتنفس منها الحياة، يشهرها سلاحاً في وجه هذا القبح الذي يتطاول على كل ما هو جميل في الحياة، فقد كان الشاعر الراحل يلوّن قصائده بأزاهير الحب وينسج خميلة انتمائه على روحها ألقاً يعيش لحظاته على وقع نبضها، فتسبقه وتسبق الزمن الأرضي إلى زمن من نضال وإبداع، فشكّل شعره حالة ثقافية على التوازي مع تجربته النضالية والسياسية.
معرفتي بالشاعر أبو خالد تعود لعام 2010 عندما طلبت منه شهادة برحيل الشاعر محمود السيد وكم كان متجاوباً ومتعاوناً حيث أثنى عبر الهاتف على الشاعر وتجربته الشعرية وأرسل لي مشاركته خلال أقل من ساعة، وعندما تعرفت إليه أكثر من خلال العديد من الأصدقاء المشتركين بيننا بادرته بسؤال استفزازي، كيف أن المعاناة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني لم تترك أثرها على ملامحه، حيث البسمة لاتفارق محياه وهو المعروف عنه أنه المقاوم الأشرس والأصلب فأجابني بعيون تبرق بالتحدي والأمل: “الحياة جميلة وطالما أن روحي تورق بالشعر وتتألق بالنضال فكل لحظة تأتي تمنحني حياة جديدة، لأن حياة بلا شعر ليست جديرة بأن تُعاش”.
لقد أرّق الوجع خالد أبو خالد، فغادرنا وجرح يقضّ قلبه على وطن عشقه وشغف به، وطن يُعاني ما يعانيه من النزف والألم، هذا الوطن الذي رسمه حلماً من حب تجلّى في أبهى حالاته، ارتسمت حوله تطلعاته وأمانيه، فحمله في وجدانه أمانة، كان الحافظ الأمين لها حتى آخر لحظة في حياته، فهل الحياة تفرضُ علينا أقدارنا، أم أننا نحن الذين نختارها؟.
خالد أبو خالد الذي ظل مقيماً في دمشق لآخر لحظة من حياته رافضاً خيانتها ومغادرتها في أزمتها كتب في حب الشام ما لا يكتبه إلا الأوفياء للياسمين وتضحيات أهل الشام:
أحب الشآم التي أيقظتني مآذنها/ أرجحتني أجراسها/شكلتني في ضوئها/من غفوت على حضنها كالقطا/فاشترتني بأحلامها/وصحوت على/موطني.. موطني.. موطني/يانشيد فلسطين تحت قباب الشآم .
في أحد الحوارات معه قال: حين أحن إلى نابلس أو الخليل أو القدس أو أي مدينة فلسطينية أخرج للمشي في دمشق، فنابلس هي دمشق الصغرى.
وعن أبرز مراحل حياته الشعرية والفنية، أضاف: أبرز مراحل حياتي هي انفتاحي على الثقافة، بداية من الموروث الشعبي وصولاً إلى الموروث الشعري الذي سجله فرسان الشعر في حياتنا العربية، وهذا نشأ معي في القرية ويتواصل في مشهدنا الكفاحي الراهن المحمول على الأغاني التي يفجرها من القرية إلى المدينة، فحسب الشاعر أن يكون حادياً للعيس، وفي قصيدته المعلقة على جدار مخيم جنين، يقول أبو خالد:
“سنقرأ نقشهم في الأرض/لا للموت، لا للماء من كأس العدو/فهل ستسقط في السبات أو الموات؟/لم يكذب الأطفال إذ كبروا، ولا اعتذروا من الشهداء/أو قبلوا من الأحياء أعذاراً/ولا أكلوا رغيفاً من أكاذيب السلام”.
وكان يرى أن “المثقف الحقيقي هو الذي لايضيّع بوصلته ولا يغرق في التفاصيل، فعندما يكون الوطن مستهدفًا علينا الاصطفاف تحت سقفه لكي نقاتل، وكلٌّ يقاتل بأدواته، وقد عُرف بمواقفه الرافضة للتسوية، وقد صدرت أعماله الكاملة في ثلاثة مجلدات عن بيت الشعر الفلسطيني في رام الله بعنوان “العوديسا الفلسطينية” على منوال أسطورة الأوديسا، مستلهماً العودة وناحتاً هذا الاسم الجديد. وأوجد شخصية رمزية في شعره اسمها “كنعان الفتى”. فكتب على الأعمال الكاملة الصادرة في رام الله “وهذه فلسطين شاسعة وواسعة.. وهي هي بلادنا التي نعطيها.. فتحملنا إلى الكون.. مذكّرةً أنها الاسم الحركي له وللوطن العربي”، ويضيف “بالدم نكتب.. وإليه نعود.. اللهم فاشهد.. إني قد بلّغت وأسلم الراية للجدير.. يصعد.. إنه الآن إلى فلسطين الأقرب.”
ماذا نحدّث عن خالد أبو خالد وتألق إبداعاته التي ظل عبرها مشدوداً إلى فلسطين دون سواها مُغنياً تاريخها وحقولها، أرضها وسماءها، أطفالها وشهداءها دون أن يتخلّى عن إيقاع قصيدته التي حملت القضية الفلسطينية إلى العالم بأسره لتصبح جزءاً من ضمير هذا العالم كقضية شعب مكافح يحمل السلاح بيد والكلمة بيد أخرى، فقد شاء شاعرنا الرحيل مع أنه ليس وقت الموت، وليس وقت انكسار الشعر ووهن القلوب، فهناك الكثير ليعطيه.. هل يُعقل أنه تعب وهو الذي بشّر بكثير من الفرح.