الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

خالد أبو خالد

حسن حميد

أجل، بين تضاعيف الكتب النايفة والثقيلة أسرار مدهشة لا تكشف عنها إلا العين النفوذ ذات الحساسية المتناهية في الرّهافة والقدرة على الالتقاط، ومنها كتاب الغرب الخالد (دونكيشوت) لسرفانتس (1547 – 1616)، ففي إحدى زواياه الظليلة، يقول الكتاب إن اثنين من الغرباء وفدا إلى بلدة صغيرة كان أهلها يحتفلون بأحد أعيادهم، وقد تعالى الصخب والكلام، وبدت طيوف الفرح جليةً، دخل الغريبان إلى إحدى قاعات الضيوف، ولم يكن منظرهما ساراً، ولم تبدُ عليهما مظاهر الحكمة والمعرفة، كانا غريبين أضناهما السفر، وهدّهما التعب، وبعد الترحيب بهما، دار الحديث حول العيد والفرح والنبيذ والنشوة؛ قال كبير القوم الحاضرين للغريبين، إننا، وترحيباً بكما، سنفتتح دناً جديداً لنبيذ من صنع أيدي أهل قريتنا، وهو نبيذ نفيس معتق، مثل الذهب العتيق، وسوف نترك لكما الحكم على جودته، وجاؤوا بالنبيذ، ووزّعوه بأكواب خشبية، وراح كل خبير بالنبيذ يبدي رأيه بما يتذوقه، وقد صار الافتخار بهذا النبيذ المعتق أعمدة نبتت في قاعة الضيوف، وحين طلب كبير القوم الحاضرين رأي الغريبين، تعالت الضحكات، مثلما تعالى الضجيج لأن ما من أحد من الحاضرين كان على ثقة برأيهما، لأن مظهرهما يؤكد أنهما بلا فراسة بلا خبرة، ولكن ما إن تذوق الغريب الأول، ولم يكن سوى (دونكيشوت) النبيذ، حتى قال بثقة: النبيذ ممتاز جداً، لولا لذعة جلد خالطته، فتعالت الضحكات، وبدت طيوف الهزء وتجلّت، وحين تذوق الغريب الثاني، ولم يكن سوى (سانشو) تابع (دونكيشوت) النبيذ، حتى قال: إنه ممتاز جداً لولا لذعة صدأ أصابته، فتعالت الضحكات أكثر، وهاج الهرج والمرج، وبدت السخرية شامتة وثقيلة بحق الغريبين، لكن حين فرغ دن النبيذ، وجدوا في قاعه مفتاح طاله الصدأ، وفي طرفه قطعة جلدية أيضاً، فصمت الجميع، وراحت نظرات التقدير والاحترام تلفُّ الغريبين، وانحنت الرقاب لخبرتهما ومقدرتهما الرائعة في التذوق.

مثل هذه الحال عاشها الشاعر الفلسطيني الكبير خالد أبو خالد، فكلّ من حوله كانوا يعرفون سيرة حياته، ورحلة الشقاء واليتم التي عاشها، والظروف القاسية التي حالت بينه وبين إتمام دراسته، وتنقله المتعدّد ما بين عمل وآخر.. لقد تغامزوا على القصيدة التي كتبها، فاتهموها بما ليس فيها، مع أن قصائده نُشرت في مجلة الآداب اللبنانية التي كانت آنذاك جسر العبور من المجهولية إلى المعروفية والشهرة، وكان خالد أبو خالد يعي قولهم، بل يسمعه بملء أذنيه، لكن قلبه لم ينصت لكلامهم، ولم تحفل روحه بوجوه السخرية التي طالت قصيدته، لأن كلّ ما قيل كان بعيداً عن النقد المنصف، لقد أنصت قلبه إلى روحه الشعري، وهذا ما عزّز ثقته بثقافته ومعرفته بالقصيدة العالية في معناها ومبناها ومغناها، ورويداً رويداً، وقصيدة تتلوها قصيدة، هدأت الضجة حول شعر خالد أبو خالد، وتوارت الضحكات وطيوف السخرية، لأن ما كتبه كان شعراً صافياً يمتلك ثيمة الخلود والبقاء. فلم يعد في نظر الشعراء الكبار ذلك الطفل اليتيم، بل صار اليتيم الوارث لمعاني استشهاد أبيه في (دير غسانة)، ولم يعد ذلك الفتى الذي عمل ماسحاً للأحذية، ونادلاً في المقاهي، ومستخدماً في الفنادق، وحارثاً للأرض، بل غدا الفدائي قائد المليشيا الذي يكتب الشعر النايف البهّار، والذي يستقبل جان جينيه الفرنسي (1910 – 1986) وينادده في الحديث عن الشعر، ولم يعد ذلك الشاعر الذي يطلب رضا المنابر، بل صارت المنابر الشهيرة تطلب قصيده لتنشره، ولحق بها النقاد فأطلقوا عليه ألقاباً عدة منها الشاعر المحارب، والشاعر الفدائي، وشاعر المقاومة، وشاعر الثورة..

اليوم، وبعد سنوات التعب الجميل، يرحل أبو خالد جسداً، تاركاً لأبناء فلسطين ميراث رجل كتب قصيده بالدموع والحنين والغناء العزيز، وسيرة رجل له هتاف وطني جهير صار دربه وحياته: إما فلسطين وإما فلسطين.

Hasanhamid55@yahoo.com