الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ضجيج روح

سلوى عباس

التقاها ذات يوم وكان الحزن يغسل وجهها ضياء وألقاً، وها هو اليوم يغادر وجهها ويبتعد، وهو يعلم يقيناً أنه يغتسل به في أعماقه.. تلك القصص ستحكي لها كم كان يعشق عينيها حين تومض عند الغروب، وسيبقى وجهها منارة ليله البعيد.

خاطبت ذاتها: أيتها الخطوات المتعبة.. يا خطواتي.. من أنا.. نسيت اسم حبيبي واسمي.. دليني على شوارع المدينة التي حبوت مع زهرها وأشواكها وتركت قبلاتي على بردها وحرها، وضحكي على غبارها.. من أنا أيتها الرياح الشتوية التي تمزق أشرعتي وتلسعني بسياطها، وتدفعني وتمضي.. وأنت أيتها الأبواب الموصدة والوجوه الأليفة التي تمرّ بي، أطلي عليّ بابتسامة لأتذكر اسم حبيبي واسمي، وأقسم أنني لن أنساه أبداً مرة أخرى.. أنا لا أذكر الأسباب التي غيّبت ذاكرتي عني وملامحي عنكم.. ثمة وجع أوسع من جلدي يطوف من مسامي، وجدران يثقب اسمنتها وحديدها بصري ويدميه.. آه يا حبيبي.. رجّع إليّ اسمك في زمني، وإن كنت بلا ذاكرة، وأجهل الأصقاع التي مرجحتني إليها.. أنا أعرف أني التقيتك في لحظة اشتياق ومنحتني حدة هذه المشاعر، ويقظة انتمائها إليك.

****

سمعت صوته يناديها ويحذّرها من أن تؤذي نفسها، وكأنها تلك الطفلة التي لم يقتنع أنها كبرت.. ذهبت إلى كرسيه، وجلست عليه، فكرت ماذا ستخبره بين هذا الركام؟! هل تخبره عن الانكسار الذي خلّفته الحرب فينا من فراغ وألم، وكم من الندبات تركت في أرواحنا، أم عن الفقر الذي يجتاح الناس، عن الحاجة، عن الغلاء، عن الخيبات التي أصابتها، وكم خسرت من الأصدقاء بفعل الموت أو السفر أو الغربة ونحن في مدينة واحدة.. هل تخبره كم أضاعت من ذاتها، وكم من الأحلام هجرتها؟ أتقول له إن أحلامنا انقلبت كوابيس، وليالينا سواداً حالكاً، ونهاراتنا نيراناً تلتهم الأخضر واليابس؟ أتقول له إن أعيادنا وجع وأيامنا لهاث لا ينتهي؟. استفاقت من غيبوبة أخذتها من ذاتها وأغرقتها في الأسى والألم. وعندما نظرت إلى صورة والدها المعلقة على الحائط، سمعت صوته يكلمها، ويطلب منها أن تكون أقوى. نظرت ملياً في الصورة، وكأنها تعاهده أن تعيش لغدها الذي ستسعى أن يكون أجمل كما كان يرغب ويتمنّى.

****

معه كانت تعود لأحلامها الزرقاء، وبحديثها الصباحي معه تشدّ لحاف الوقت لتوقفه عند أقدامها وتخطو الخطوة الأولى يقتلها الخوف أن يحين وقت يغادرها فيه، فتتأمل عينيه وهو يخاطبها: كم أتمنى أن تغسلي أحزانك وتكوني أكثر إشراقاً وأكثر دهشة، ولو كنّا أكثر حزناً، فهذا ما يميّزنا ويدفعنا للطيران، وتأكدي أنني لن أتعب من أن أطرق نوافذك لأذكرك أن الذاكرة لا تموت، وأننا نخبئ في أعماقنا مارد قوتنا فأزيحي عن روحك هذا الوهن، ففي الوقت الذي ينتظرك الآخرون أن تتعثري ويضحكون، أن تقعي ويهللون، أن يثيروا غضبك ليتصيدوا عثراتك، عليك أن تتحرّري من مخاوف السقوط.. أن تتحرري من الغضب وتتأني وتكوني أكثر هدوءاً.. كوني كمن يصقل الماس ليصنع تحفته بتأنٍ وهدوء وصفاء يعمل حتى لا يفقد غراماً لا يمكن ترميمه.. افتحي نوافذ الأمل وانطلقي، دربي نفسك ألا تتسرعي بحكمك وانفعالك وأن تعودي لدربك الذي تحبين.. لتكن حياتنا كمن سيموت غداً لا يتركها إلا وعبق روحه فيها، لا تكوني كبعض من ملّ الحياة فطلب النهاية والنهاية تتفرج عليه، انفضّ من حوله الأحبة ولم يبق إلا الأعداء يتسلون بنزيفه.. اسمحي لنفسك أن تطير وتحرّري من الدوران في مدار الآخرين، وإن جاء وقت وغادرت اتركي عطرك يفوح في المكان.