مجلة البعث الأسبوعية

نسب التلوث تزداد في الهواء والماء والتربة  ولا حراك بشأنها!! سوء في إدارة النفايات ودراسات سطحية تفتقر للمعلومات الدقيقة!

البعث الأسبوعية – غسان فطوم

من الملاحظ في زحمة انشغالنا بآثار الحرب الاقتصادية أننا ابتعدنا كثيراً عن الاهتمام بالحديث عن التلوث البيئي سواء في الماء أو الهواء أو في التربة، وحتى التلوث السمعي والبصري الذي بات مزعجاً للغاية نتيجة الفوضى العمرانية والمرورية، ورغم أن نسب التلوث زادت أضعاف مضاعفة خلال السنوات العشر الأخيرة، وباتت تطبق على أنفاسنا، لكن للأسف لا حراك جدي بشأن التصدي لهذا الخطر الداهم وكأنه لا يعنينا!.

أرقام مخيفة

في الدفاتر القديمة وجدنا دراسة قام بها البنك الدولي عام 2004 ضمن إطار برنامج المتوسط للمساعدات التقنية البيئية أظهرت “وجود تأثيرات سلبية خطيرة على الصحة نتيجة التلوث وقدرت الدراسة أن هناك حوالي 3500 حالة وفاة و17 ألف حالة التهاب قصبات مزمن في سورية كل عام نتيجة التعرض للمستويات العالية من تلوث الهواء في المناطق الحضرية.. وخلصت الدراسة إلى أن كلفة التدهور البيئي والصحي في سورية نتيجة تلوث الهواء احتلت المرتبة الأولى وقدرت تكاليف هذا التدهور بحوالي 11.7 مليار ليرة سنوية في ذاك الوقت”.

وفي عام 2009 كانت نسبة تركيز أكسيد الآزوت في هواء دمشق أكثر من 122 ميكروغرام /م3، وتركيز غاز ثاني أكسيد الكربون 96 ميكروغرام/م3، ونسبة الغبار العالق 418 ميكروغرام/م3، وتبدو لنا خطورة هذه الأرقام عندما نعلم أن المعايير المسموح بها من منظمة الصحة العالمية لنسبة الآزوت هي 40 ميكروغرام/م3، و50 ميكروغرام/م3 لتركيز ثاني أكسيد الكربون، و90 ميكروغرام/م3 للغبار العالق.

وبالعودة إلى دراسة قامت بها وزارة البيئة في ذاك الوقت وتحديداً عام 2010  ظهرت نتائج مخيفة لتلوث الهواء في مدينة دمشق، فبحسب النتائج تراوح التركيز اليومي للغبار العالق ما بين 14-3394 ميكرو غرام/م3 ونسبة التركيز اليومي لغاز ثاني أكسيد الكبريت ما بين 19- 694 ميكروغرام/ م3 ، وتراوحت القيم الساعية لغاز ثاني أكسيد الآزوت مابين 13-1354 ميكروغراماً/م3 ، وتراوحت نسبة تركيز الأوزون مابين صفر – 183ميكروغراماً/م3، أما غاز كبريت الهيدروجين فتراوح تركيزه اليومي بين صفر – 473 ميكروغرام/م3 ، وفيما يتعلق بغاز أول أكسيد الكربون فقد تراوح تركيزه الساعي ما بين 13 – 87425 ميكروغرام/م3. ‏

 من سيء إلى أسوء!

لا شك أن الحالة البيئية ازدادت سوءاً وخطراً بعد عشرة سنوات من الحرب، فقد ازدادت نسب التلوث بشكل مخيف مع تزايد عدد السكان في العاصمة دمشق وكذلك تضاعف عدد المركبات فيها بكافة أنواعها عدا عن تعرضها للهلاك، إضافة إلى نوعية الوقود السيئ، ووجود عدد كبير من وسائط النقل القديمة العاملة على الديزل، ومن الثابت علمياً أن ذلك يؤدي إلى انخفاض كفاءة الاحتراق في محركاتها حيث تطلق السيارات القديمة الملوثات أكثر بـ (20) مرة مما تطلقه السيارات حديثة الصنع”، وتوضح الدراسات أن نوعية الوقود المتدنية تلعب دوراً هاماً في زيادة الغازات الملوثة وخاصة ثاني أكسيد الكبريت، إذ أن الوقود المحلي المستخدم يحتوي على نسبة مرتفعة من الكبريت تبلغ (0,15%) في البنزين و (6,7%) في الديزل وتصل إلى (5,3%) في الفيول، وتبلغ نسبة استهلاك قطاع النقل من الديزل نحو (38%) من مجمل كميات الديزل المستهلكة في سورية، وتتركز معظم وسائط النقل في المدن الكبيرة، ووفقاً للتقديرات فإن ثلث وسائط النقل في سورية متركزة في دمشق ويؤدي وجود هذا العدد من السيارات والإدارة السيئة لحركة المرور إلى حدوث الاختناقات المرورية، والتي تؤدي بدورها إلى توقف السيارات على إشارات المرور الضوئية لفترات طويلة، وأكدت الدراسات أن (70 -80%) من ملوثات الهواء في مدينة دمشق وحدها يعود إلى منظومة المرور وحركة النقل والمركبات، إضافة إلى ذلك يستخدم الديزل في التدفئة بنسبة تصل لـ 33.3 بالمئة من مجمل كميات الديزل المستهلكة في سورية، خاصة وأنه من النوعية المتدنية الرديئة التي تحوي نسبة كبيرة من الكبريت تزيد عن 0.7 بالمئة.

 

أين الدراسات الحديثة؟

اليوم في ظل هذا الواقع المتلبد بكل أنواع التلوث نسأل: أين الدراسات الحديثة عن نسب التلوث في سورية سواء ما يتعلق بتلوث الهواء أو الماء أو التربة، أين الأبحاث العلمية بهذا الخصوص، وإن وجدت أليس من الضروري استثمارها من أجل وضع تصورات مناسبة لإيجاد الحلول والمخارج المناسبة لكارثة التلوث التي تشكل خطراً داهماً يهدد مستقبلنا؟!.

المؤلم أن هناك العديد من الأبحاث تم تنييمها بإبرة مخدر في الأدراج، في الوقت الذي تم فيه صرف مئات الملايين على أبحاث لا جدوى اقتصادية منها مقارنة بالبحوث البيئية!، ويحزننا ما يقوله المعنيون بشؤون البيئة “أن رصد نسب التلوث يحتاج إلى دراسات عميقة والمتوفر حالياً يفتقد للكثير من المعلومات الخاصة بنسب التلوث البيئي!” والسؤال الساخن: ماذا أنتم فاعلون لتحديد وحصر مخاطر التلوث البيئي الذي يداهمنا جواً وبراً وبحراً؟!.

لعل الذكرى تنفع!

في عام 2017 أقامت الجمعية السورية للوقاية من حوادث الطرق، بالتعاون مع وزارة الإدارة المحلية والبيئة، ندوة بعنوان (تلوث هواء دمشق مشكلة بيئية خانقة) وللأسف بدلاً من أن يطلعنا المعنيون على برامج جدية لمحاصرة المشاكل البيئية راحوا يسهبون بشرح مخاطر تلوث الهواء وكيفية تشكل الملوثات، وكيفية الحد منها وكأن الحضور تلاميذ مدرسة لا يعرفون شيئاً عن مخاطر التلوث!، والغريب أن المعنيين لم يذكروا أية نسبة تتعلق بتلوث الهواء في دمشق ، علماً أن هناك لجنة تم تشكيها على مستوى الوزارات ذات العلاقة، مهمتها العمل على التخفيف من تلوث الهواء في دمشق، فماذا فعلت تلك اللجنة وغيرها من اللجان البيئية؟

خارج التغطية!

للأمانة الشأن البيئي بكل تفاصيله لم يغب عن اهتمامات الإعلام، فعلى مدار العقود الماضية كانت هناك مطالبات بضرورة الاهتمام بالتشجير داخل وخارج المدن من أجل مقاومة التلوث، لكن تلك المطالبات والدعوات ذهبت أدراج الرياح، بل التوصيف الأنسب أن “الوحش الأسمنتي” زحف في كل اتجاه وأكل المساحات الخضراء و”بتطنيش” من الجهات المعنية التي لغاية اليوم أثبتت فشلها في التخطيط العمراني السليم!، فمعظم المدن السورية بدلاً من أن تكون محاطة “بزنار أخضر” نجدها مخنوقة بفعل الورش الصناعية المختلفة التي لا تراعي الاعتبارات البيئية ولو بحدودها الدنيا، فبالقرب من دمشق هناك معامل ومقالع للرمل ومعمل للأسمنت والكثير من الصناعات الملوثة للبيئة، ولعل فروع نهر بردى داخل المدينة ونهر قويق في حلب والعاصي في حمص وحماه وما يرمى بهما من مخلفات تختصر كل فصول الحكاية البيئية المؤلمة، وكذلك هو الحال في محافظة طرطوس التي تعاني من الآثار البيئية القاتلة لمعمل الأسمنت!، وبحسب إحدى الدراسات الدراسات حول ما يتسبب به المعمل من تلوث بيئي خطير، بلغ معدل سقوط الغبار “ما بين 77 و 518 طن /كم2/ في شهر، أما في القرى المجاورة والتي تبعد عن المعمل بنحو 5 كلم وأكثر، فقد وصل معدل سقوط الغبار إلى نسب تراوحت بين 18 و100 طن/كم2 في شهر، علماً بأن الحد المسموح به هو 9 طن/كم2 شهرياً.”

خطر النفايات!

يومياً يدخل إلى محطات معالجة النفايات في مختلف المحافظات أكثر من /10000/ طن بقصد معالجتها، في دمشق لوحدها هناك أكثر من 3000 طن من النفايات تدخل إلى مكب باب شرقي، والمشكلة أن العديد من معامل معالجة النفايات معطلة، ما يجعل القمامة تتراكم ومعها يزداد خطر التلوث، في ظل وجود “النباشين” للقمامة بحثاً عن البلاستيك والحديد والخردوات، وبرأي خبير بيئي أن النبش العشوائي يؤدي إلى التلوث الأفقي لسطح التربة أو الشاقولي الذي يصل للمياه الجوفية ومجاري الأنهار مما يؤدي إلى تلوث المياه الجوفية بالرشاحة الناتجة عن الطمر العشوائي مما يهدد تلوث المزروعات وبالنتيجة حدوث الأمراض الخطيرة، وما يزيد الطين بلة أن أكوام القمامة يتم حرقها مما يؤدي لتصاعد الغازات الملوثة للهواء.

وما يزيد الأمر خطورة هو النفايات الطبية الناتجة عن المشافي العامة والخاصة وللأسف وبشهادة خبراء أن بعض إدارات المشافي لا تتعامل بشكل سليم مع تلك النفايات وفق ما نصت عليه القوانين لجهة جمعها ونقلها وتخزينها وتصريفها بشكل آمن وحتى أن بعض المشافي غير مجهزة للتعامل مع هذه النفايات حيث لا يوجد أماكن لتخزينها كما في مشافي دمشق التعليمية باستثناء مشفيي الأسد الجامعي والأطفال، ومن يجول في حرم المشافي سيجد الكثير من النفايات في الحاويات تنبشها القطط والجرذان!.

وبحسب بحث نشر في مجلات جامعة دمشق المحكمة حول إدارة النفايات الطبية في مشافي دمشق الجامعية بيّن انه يتم جمع كل نفايات المششفى بكيس واحد ولكن لا يتم فرزها مما يؤدي إلى زيادة كمية النفايات المراد معالجتها والتي تحتاج لتقنيات خاصة نتيجة احتواء تلك النفايات على مواد خطرة، عدا عن وجود النفايات الصلبة في أكياس النفايات الطبية يؤدي إلى تمزق الأكياس وبالتالي نزول السوائل الملوثة للبيئة، حتى السيارات الناقلة للمخلفات الطبية لا يمكن تمييزها عن غيرها من الآليات الناقلة للنفايات الأخرى كقمامة المنازل على سبيل المثال، وخلص البحث إلى أن التعامل مع النفايات الطبية لا يتم بشكل دقيق وصحيح، وأوصى البحث بضرورة التعامل مع النفايات الطبية بطريقة التحلل الحراري بدلاً من الحرق.

انكماش قطاع المراعي

ما زاد الطين بلة أن الحرب المدمرة كانت عاملاً مؤثراً في زيادة نسب التلوث البيئي، بسبب تدهور القطاع الزراعي الذي كان مستهدفاً بشكل ممنهج وكذلك الغابات، من خلال القطع الجائر والحرائق الطبيعية والمفتعلة، فحسب التقرير الوطني الخامس لاتفاقية التنوع الحيوي الصادر عن وزارة الإدارة المحلية والبيئة عام 2016 أن الأعمال الإرهابية ساهمت بشكل كبير في تدهور الإنتاج الزراعي، حيث توقف العمل في مشاريع استصلاح الأراضي المتدهورة ومشاريع مكافحة التصحر وتثبيت الكثبان الرملية والمحميات الرعوية والطبيعية، إضافة إلى زيادة تلوث تربة البادية السورية وخاصة في المناطق المحيطة بآبار النفط ومناطق التكرير البدائي، الذي أدى إلى تلوث مياه الشرب والأراضي الزراعية والرعوية وقتل الماشية، الأمر الذي أدى إلى التأثير على مُربِّي الماشية والمزارعين، ولم يتوقف الضرر عند هذا الحد، بل وصل إلى تضرر مكونات التنوع الحيوي والغطاء النباتي في غابات القطر نتيجة أعمال التخريب التي قامت بها المجموعات الإرهابية، إضافة إلى تدهور الغطاء الشجري، حتى الغطاء النباتي تحت أشجار الغابة من نباتات حولية ومعمرة وأعشاب ونباتات طبية وعطرية تعرض للتدهور نتيجة تلك الأعمال، وللعلم تبلغ مساحة الغابات في سورية ما يزيد عن 204020 هكتار أو ما يعادل 2 %من المساحة العامة للقطر وتشكل الحراج الطبيعية 04 %تقريبا تعرضت عبر العقود الماضية إلى ضغط كبير تراجعت مساحاتها كثيرا لأسباب عديدة أهمها الحرائق الحراجية ) الطبيعية والمفتعلة ( والاحتطاب والرعي الجائر والتوسع العمراني وتحول أجزاء كبيرة منها إلى مساحات زراعية.

وتشير الأرقام إلى أن سورية فقدت 20.4% من الغطاء الشجري في الفترة بين عامي 2012 و2019 جراء الحرائق في غابات اللاذقية وطرطوس وإدلب وغيرها من المناطق الحراجية، وفي عام 2020 تسببت الحرائق في القضاء على ما يزيد عن 9 آلاف هكتار من الأراضي الزراعية والغابات، وما تزال الحرائق مستمرة ..

شبعنا حكي!

عندما نسمع وزارة الإدارة المحلية والبيئة تتحدث أمام الإعلام عن مشاريع وخطط وإجراءات لحماية البيئة وخلق تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة نقول إن بيئتنا بألف خير، غير أن الواقع عكس ذلك تماماً قبل وأثناء وبعد سنوات الحرب، ما يعني أن القوانين لوحدها لا تحمي البيئة إن لم نفعلها ونفرض هيبتها، ما يتطلب استنفاراً حقيقياً للحفاظ على أمننا البيئي، فتلوث المياه الجوفية بمياه الصرف الصحي والنفايات الصلبة الخطيرة الناتجة عن المنازل والمشافي والمصانع والمسالخ والدباغات وغيرها بات خطيراً، وتقلص التربة الزراعية بات أخطر، وللأسف خياراتنا بالحلول باتت منكمشة نتيجة الظروف الصعبة التي يعيشها بلدنا، فقبل الحرب كان المعنيون يتسابقون بالحديث عن إجراءات قريبة عن “استقدام مصافٍ حديثة لتكرير النفط، وتحديث أسطول النقل” لكن هذه الخيارات تبدو غير متاحة اليوم نظراً لتدهور الاقتصاد وتضرره باستثناء الاعتماد على الطاقات المتجددة رغم وجود معوقات بخصوصها أهمها تكاليفها العالية!.

يشار إلى أن قانون البيئة عندنا صدر عام 2002، ومنذ عام 2003 أطلقنا إستراتيجية أو حملة لحماية البيئة من التلوث وخاصة التلوث بالهواء، وبغض النظر عن السنوات العشر الأخيرة نجد أن تلك السياسة بقيت حبراً على ورق، وكذلك هو حال تفعيل الإستراتيجية الإعلامية للتوعية البيئية، في الوقت الذي نحتاج فيه لاتخاذ خطوات سريعة للحفاظ على البيئة التي دمرتها الملوثات ليس فقط الناتجة عن مخلفات المعامل والمصانع وعوادم السيارات والنفايات بمختلف أنواعها، وإنما الناتجة عن استخدام مختلف أنواع المبيدات الزراعية والأسمدة الكيميائية ذات الضرر البالغ، والأهم هو التطبيق الصارم للقوانين ذات العلاقة بالبيئية، بالمختصر بيئتنا تحتضر إن استمر التلوث جوراً وبراً وبحراً يأكل الأخضر ويدمّر التربة ويسمم الهواء ونحن نردد أن قوانين البيئة عندنا من أفضل القوانين في المنطقة فقط لأنها تعتمد على المعايير الدولية الناظمة لحماية البيئة.

هذا غيض من فيض ما يحدث في بيئتنا ونام لان تصل الرسالة، فالعبرة ليس بسن القوانين واستعراض المشاريع، وإنما بالفعل والتنفيذ يا سادة!.