مجلة البعث الأسبوعية

كبسولات السعادة وآهات الشدائد

البعث الأسبوعية-علاء العطار

أسئلة عديدة تقض مضاجعنا.. هل نتجه الآن نحو الوضع الافتراضي الذي يعتمد على الحبوب في تسيير الشؤون الاجتماعية والسياسية أو ما يعادله؟ وعندما نتأمل صعود الواقع الافتراضي، هل يمكن للتطور المتزايد والقدرات الغامرة للواقع الافتراضي أن تنتج عالماً يشعر فيه البشر بالرضا بشكل متزايد، بينما يتجاهلون العالم الحقيقي بشكل تدريجي؟

تخيل لو توفر لديك مسكن مريح، وأن شركات الأدوية ابتكرت عقَّارين مجانيين على شكل كبسولتين تتناولهما بصورة يومية، حيث تحتوي الكبسولة الأولى على جميع المتطلبات الغذائية اليومية، في حين تضمن لك الكبسولة الثانية الشعور بالسعادة والرضا طوال النهار والليل.

وهنا نتساءل، هل من الممكن أن يوفر التقدم في العلوم البيولوجية من الناحيتين الوراثية والدوائية كبسولة سعادة فعلية في المستقبل المنظور، بحيث تصبح مشكلة حقيقية لا مجرد تجربة فكرية؟ وهل تتجه المجتمعات التي ترتكز بقوة على السعي وراء السعادة الفردية نحو حالة يتخلى فيها الفرد عن حرياته لقاء حالات نفسية من الرضا أو السعادة؟ وما الثمن الذي سندفعه مقابل أي نوع من السعادة؟

بعد كل هذه التساؤلات.. هل ستكون راضياً عن هذه الحالة وهل سترغب بها أصلاً؟

قد يقول كثيرون إن توفير المسكن والطعام للجميع سيصب في مصب المنفعة العامة، فهما عنصران ضروريان لدعم ازدهار الإنسان، وضمان السعادة له على المدى الطويل، ودونهما سيقيدنا السعي وراء مشاريع مستقبلية لتحقيق ذواتنا أو تحقيق إمكاناتنا. وهنا لن نختلف على أنهما أمران ضروريان لنصل إلى أقصى إمكاناتنا، لكن أكثر الجدل سيدور حول كبسولة السعادة.

من هذا المنطلق، يبدو أن تحقيق الفرد لذاته ولمطامحه المستقبلية على أكمل وجه يمسي شديد الصعوبة دون الشعور بالسعادة. لكن بإمكان المرء أن يحاجّ كذلك بحجة نقيضة تقول إن البشر سيفشلون في تطوير أنفسهم بصورة كاملة، فكرياً كان أم روحياً أم أخلاقياً، بدون النضال ومقارعة الشدائد.

يصبح الإنجاز المولود من رحم الشدائد أو عبر التغلب عليها جزءاً لا يتجزأ من شخصية المرء الناجح والمصقول بإتقان، وبالتالي يمسي سعيداً بالمعنى الكامل والأرسطي للكلمة. وبناء عليه، فهل على المرء هنا أن يكون ساخطاً، أو أن يمر بأمزجة سيئة مختلفة، أو أن يكون تعيساً كلياً حتى يتولد في داخله الدافع لتطوير الذات؟ وإذا غمرت شخص ما مشاعر السعادة طوال الوقت، فما هو الدافع المحتمل الذي قد يعتمل داخله حتى يسعى إلى تغيير ظروف حياته؟
وإذا كان “التفكير عبداً للعواطف”، كما جاء على لسان الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم، فما هي طريقة التفكير التي تجيز لنا السعي لتحسين ذواتنا في حال كانت حياتنا العاطفية مغمورة على الدوام بشعور غامض ودافئ بالرضا عن أنفسنا وعن محيطنا على حد سواء؟

بعد ما ذكر، يمكننا أن نبدأ في رؤية كيف ستمهد كبسولات السعادة النظرية الطريق لنشوء مجتمع غير مرغوب فيه – بل ربما لقيام مجتمع شمولي، وهذا يعود بنا إلى غوته الذي قال ذات مرة: “انتصار الاستبداد هو إجبار العبيد على أن يعلنوا أنفسهم أحراراً”، إذ إن السعادة الكلية ستأتي في هذه الحالة من السيطرة الكلية، على عكس العالم الذي خلقه الروائي الإنكليزي ألدوس هكسلي في رواية “عالم جديد شجاع” (1932)، حيث يؤدي عقّار “سوما” دور كبسولة السعادة الاجتماعي نفسه، ففي عالم السعادة الشمولي، سيشعر جميع المواطنين بالرضا، حتى إنهم سيشعرون بأنهم أحرار، لكن في الوقت نفسه تغدو قدرتهم على التغيير والنقد ودراسة ذواتهم ومجتمعهم وثقافتهم بدقة ضئيلة جداً.

هل يعني هذا إذن أن علينا أن نحاجّ لصالح الوظيفة الأخلاقية المفيدة لجميع أنواع البؤس والاستياء في تطور البشرية؟

هذه الحالات السيئة قد أدت دوراً لا يستهان به في تطورنا التاريخي، فالواقع يقول إن تجربة الظلم مثلاً هي التي تثير التعطش لنقيضه. أو على نحو أعم، إن تجربة الشر هي التي تدفعنا إلى استنباط الخير والسعي إليه، إذ يزودنا الشر، من منظور معين، ببعض أشكال المعرفة الضرورية التي تقودنا إلى الرغبة بالخير. لذلك، قد يكون التطور الأخلاقي جدلاً بين حالات شقاء أدى بالنتيجة إلى حالات أعلى من السعادة. وهنا نكتسب نوعاً من المعرفة في حالة الشر الناقصة في حد ذاتها، ولكن عبر إعمال العقل يمكننا احتمال الشر إلى حد ما لأن مصادره ونتائجه تمسي مفهومة بصورة أفضل.

ينسجم هذا جيداً مع ما قاله سقراط منذ زمن طويل: الشر وليد الجهل، والخير يعتمد على المعرفة ويؤدي إلى حالة أعمق من السعادة. نستنتج من هذا المفهوم أن السعادة هي نوع من المعرفة القانعة التي يجمعها المرء من حالات سابقة من الجهل التعيس.