اقتصادصحيفة البعث

شتان بين إعادة توزيع الدعم وسحبه

 ليسوا قلة أولئك الذين يستهينون بحجم وأهمية الدعم الذي تقدمه الدولة لكافة المواطنين منذ عقود، أكان بصيغته المادية، كدعم الخبز والوقود والمواد التموينية المقننة، أو بصيغته الخدمية كالتعليم والصحة؛ وكم أبدوا استهانتهم الكبرى بالراتب الضعيف الذي يتقاضاه العاملون في الدولة، وبمتوسط دخل الفرد السوري التي تنشره جهات دولية بين حين وآخر، متناسين أن مجمل الدعم الذي يستفيد منه عامة المواطنين هو بمثابة راتب عيني مسبق الدفع لجميع المواطنين دون استثناء، ويتوازى ويتقارب مع الراتب النقدي الذي يتقاضاه العاملون في الدولة، ومع الدخل الذي يحققه الآخرون من أعمالهم المتعددة، بل ويزيد عن ذلك.
لكن المشكلة هي في طريقة توزيع هذا الدعم، وتباين حجم نصيب المواطنين منه، كأسر أو كأفراد، فجميع الأسر، الغنية جدا والفقيرة جدا، تحصل على نفس دعم الخبز، ولكن أسرة عادية فقيرة تحصل على دعم وقود التدفئة فقط، في حين أسرة غنية أخرى تحصل على وقود التدفئة ووقود سيارتها وآلياتها ومعداتها، وأسرة فقيرة صاحبة منزل بسيط تحصل على دعم الماء والكهرباء أقل كثيرا من أسرة غنية تملك منزلا متميزا، ما يثبت أن أسرة غنية تحصل على دعم يعادل عشرات الأسر الفقيرة، وهكذا تتباين استفادة الأسر من دعم التعليم والصحة. وقس على ذلك، عدا عن الأخطاء الحاصلة في توزيع هذا الدعم بين زمان ومكان، ما دعا الكثيرين للتذمر والمطالبة بإعادة توزيع هذا الدعم، بأفضلية تحويله إلى دعم مالي يُمنح دوريا إلى المواطنين وفق أسس ومعايير عادلة، بحيث يتاح لكل لمواطن – لكل أسرة – التصرف بالمبلغ المالي في ضوء ما يراه من حاجته، على أن يكون هذا الدعم المالي مستحقا لكافة المواطنين، إضافة على رواتبهم كعاملين في الدولة وعلى دخولهم كعاملين في القطاع الخاص والأهلي والمهن الحرة المتنوعة، مع جواز استثناء شرائح ذوي الدخل العالي الذين يمكنهم الاستغناء عن هذا الدعم، أو أن تكون السياسة الاقتصادية العامة في الدولة تضمن تحقق رواتب كافية للعاملين في الجهات الرسمية، وظروف عمل تسمح لغير العاملين في الدولة بتحقيق دخل يتناسب مع قيمة متطلبات العيش الكريم، مع ما يتناسب مع تغيرات الأسعار نتيجة سحب الدعم، في ضوء توفر المواد المطلوبة.
المؤسف أن الحكومة الحالية جهلت أو تجاهلت الفرق بين إعادة توزيع الدعم وسحبه، وعملت خلال الأيام الأخيرة على سحب الدعم العيني القائم عن شريحة وأكثر، دون التعويض بدعم مالي مرافق حالا، أو الوعد بذلك خلال أيام. وهنا، انقشع الضباب وبان الكرم، إذ تحسس الجميع وثبت لهم بشكل جلي صحة المثل الذي يقول “لا تشعر بأهمية الشيء حتى تفتقده “، فبمجرد أن تم تشريع سحب الدعم – أو تنفيذ ذلك فعلا – عن هذه الأسرة أو تلك، تبيّنت الأهمية الكبرى والضرورية للدعم الموجود، ومدى الخطورة الكبرى التي ستنجم عن سحبه، ومن تمّ سحب الدعم عنهم أصبحوا كأنهم أمام كرم اعتادوا الحصول على حاجتهم منه، وقد أغلق بابه أمامهم فجأة دون بديل وآخر، ما لم يدفعوا مبالغ كبيرة لشراء حاجتهم منه، وهم لا يملكون هذه المبالغ، واتضح أن تنفيذ سحب الدعم عن الخبز والوقود والمواد التموينية فقط، سيسفر عن استهلاك الأسرة التي دخلها الشهري 100 ألف ل. س لكامل هذا الدخل، لتغطية النفقات الشهرية لهذه المواد فقط، بل وقد لا يكفي العديد من الأسر، إذ ستدفع كل أسرة – وسطيا – 2000 ل س على الأقل كل يوم زيادة في قيمة الخبز فقط.
هل غاب عن الأذهان الفرق الكبير بين سحب الدعم وإعادة توزيعه؟ وكيف استسهلت سحب الدعم واستصعبت أو تجاهلت أهمية، بل ضرورة، الإعداد الموازي حالا لإعادة توزيعه؟ وهل من الجائز سحب الدعم عن أسرة دخلها قليل تشكو من عدم كفايته في ظل الدعم الموجود، ما لم يتم تمليكها البديل النقدي الذي يعوضها عن ذلك فورا، حال قرار سحبه؟ وغاب عنها أن الأسر الغنية تملك السيولة التي تمكنها من شراء حاجياتها عقب سحب الدعم، ولكنها سترفع أسعار سلعها وخدماتها بما يزيد عن الدعم الذي خسرته، لا بل أن الكثير من هؤلاء استبقوا الحدث وزادوا من أسعارهم وهم ينهجون ذلك منذ عقود، ولا ضابط فعليا لأغلبهم، والفقراء هم الذين سيدفعون هذه الزيادات الكبيرة المتتالية لأسعارهم من دخلهم القليل.
المؤسف أن الجهات المعنية لم تحسن التمييز بين إعادة توزيع الدعم الذي هو محط مطالبة الكثيرين منذ سنوات، وسحب الدعم الذي له عواقبه الوخيمة، ما لم تصدر التشريعات، وتتخذ الإجراءات التي ترفع الدخول بما يغطي زيادة الأسعار، كما أنه لا عدالة في سحب الدعم بنفس الدرجة عن جميع المصنفين ضمن شريحة معينة، فالفروق كبيرة في دخل هذا وذاك، ضمن نفس الشريحة. ولقد اعتدنا سابقا أن ترفع الحكومة أسعار بعض المواد، أو ترفع الرسوم والضرائب لتحضر لزيادة في الراتب أو لتغطي زيادة حصلت، فإن كانت تسحب الدعم الآن لتحضر لزيادة جديدة في الراتب، فما هي إجراءاتها بشأن ذوي الدخل المنخفض من غير ذوي الرواتب، في ظل الارتفاع الكبير الذي سيحصل في الأسعار جراء حجب الدعم عن منتجي السلع والخدمات؟ فكم هي حاجة الوطن والمواطن لحكومة حكيمة، بإداراتها العليا التي تقرر، والوسيطة التي تحضر لها معطيات القرار!!
       عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية