أخبارصحيفة البعث

هل تتمكّن الحرب الإعلامية الأمريكية من هزيمة روسيا؟

تقرير إخباري

دائماً وحسب الدعاية الأمريكية، تقوم وسائل الإعلام الغربية بتسويق فكرة “غزو روسي وشيك” للأراضي الأوكرانية، ولا ينبغي وفقاً لوجهة النظر الأمريكية أن يحيد أحد عن هذه الفكرة، فهي الفكرة التي يجب أن تسيطر على الرأي العام العالمي، بل يجب أن تصحو وكالات الأنباء وتنام على التحذير من اندلاع شرارة حرب عالمية ثالثة انطلاقاً من أوكرانيا.

ورغم أن مناطق النزاع الأمريكية الروسية كثيرة في العالم، غير أن الإدارة الأمريكية اختارت أن تركّز على هذه المنطقة من العالم دون غيرها، حيث تعدّ أوكرانيا وبيلاروس آخر دولتين في الاتحاد السوفييتي السابق تقفان حاجزاً أمام تمدّد “ناتو” شرقاً باتجاه الحدود الروسية، فضلاً عن أنهما، وربما كان هذا الأهم، تحتضنان أهم أنابيب النفط والغاز العابرة من روسيا إلى قارة أوروبا، ويمرّ عبرهما ما نسبته 40% من الطاقة التي تحتاج إليها أوروبا، وليس من السهل تعويض هذه الحصة بكل الوسائل المتاحة.

 

وتصرّ واشنطن دائماً على هذه الفكرة، رغم النفي القاطع الروسي لها على لسان جميع المسؤولين، وحتى عندما أعادت روسيا قواتها المشاركة في المناورات في كل من بيلاروس وشبه جزيرة القرم إلى أماكن تمركزها، زاد الإصرار الأمريكي على نشر الأكاذيب والمزاعم، بل زادت على ذلك بالحديث عن عقوبات مفترضة على روسيا في حال أقدمت على ذلك، بمعنى أن الغزو الروسي بات حقيقة قائمة ولم يتبقّ سوى البحث في النتائج، وذلك لإقناع كل من يتبادر إلى ذهنه الشك في أوروبا حول هذه المزاعم بأن الأمر واقع بالفعل، والوقت الآن ليس لمنعه بل للتعامل مع نتائجه، فسيناريو الكذب الأمريكي مستمر في هذا السياق ولا يمكن وقفه أو القفز فوقه مطلقاً، حيث إنه لا ينتهي الجانب الروسي من تفنيد كذبة من هذه الأكاذيب الأمريكية، حتى يتقدّم الأمريكي إلى الأمام في مسلسل أكاذيبه، فما إن تبيّن أن روسيا بالفعل تحجم عن ذلك بغض النظر عن حقيقة نيّاتها، حتى عادت وسائل الإعلام الأمريكية لتسويق كذبة متقدّمة في هذا الشأن، ومن ذلك ما زعمته مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية من أن روسيا أعدّت قائمة بالشخصيات السياسية الأوكرانية التي يجب “تصفيتها أو اعتقالها” في حالة نشوب نزاع عسكري بين موسكو وكييف، وهي تقارير نفاها متحدث باسم الكرملين للصحفيين، وقال: “إنها مزيّفة وكذبة ذات خيال مطلق”.

 

وأفادت وسائل إعلام أمريكية أخرى بأن واشنطن بعثت برسالة تتضمّن مثل هذه المعلومات إلى ميشيل باشليت المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

 

وواضح أن الحرب الإعلامية التي تخوضها واشنطن ضدّ موسكو حرب مركبة، حيث تنطلق هذه الأكاذيب بداية على لسان المسؤولين الأمريكيين مطعّمةً بتحذيرات استخباراتية مزعومة أو من دون ذلك، ثم يتمّ تسريبها إلى وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسة بالتناوب فيما بينها أو بشكل متقاطع لإلباس هذه الأكاذيب لبوس الصدقية، وتتولّى وسائل الإعلام الأمريكية توزيع الأنباء إلى زميلاتها الغربية، لإجبار جميع المشككين على تصديق هذه الفرضية، ومن هذه الدوريات الغربية يتم التعميم على سائر دول العالم، لإضفاء أجواء الحرب عليها وإجبارها هي الأخرى على تقمّص أجواء الحرب في إعلامها المرئي والمسموع، وبالتالي تحويل هذا الفضاء الإعلامي الواسع إلى مسوّق لأكاذيب المسؤولين الأمريكيين، بحيث يصعب على المتلقي رفض هذه الفكرة، لأنه يقف أمام كمّ هائل من المعلومات المضللة في السياق ذاته، وقبل أن يتأكد من صحة الكذبة التي يعاينها يجد نفسه مضطراً لمناقشة كذبة أخرى.

 

وعندما يتحوّل المناخ الإعلامي العالمي إلى مناخٍ مسموم بالفعل بفكرة “غزو روسي” حتمي للأراضي الأوكرانية، عندها وحسب التفكير الأمريكي، تستطيع الإدارة الأمريكية أن تملي على العالم ما تشاء من حلول لإنقاذه من الكارثة التي توشك أن تحلّ به، وهذه الحلول تكمن طبعاً بفرض العقوبات المتنوّعة على الجانب الروسي التي يعدّها الغرب السبيل الوحيد للتغلّب على الخصم الروسي، حسب رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين التي قالت: إن الدول الغربية على استعداد لاستهداف “نقطة ضعف” روسيا إذا غزت أوكرانيا، موضحة أنها تتحدّث عن فرض عقوبات اقتصادية جديدة، تفضي إلى عزل روسيا عملياً عن الأسواق المالية الدولية، وصولاً إلى فصلها عن النظام المالي “سويفت”.

 

وهذا بالطبع يتقاطع مع ما أفادت به وسائل إعلام غربية، نقلاً عن مصادر أمريكية، من أن واشنطن أعدّت حزمة عقوبات جديدة ضد روسيا، حيث ذكرت وكالة “رويترز”، أن الحديث يدور عن حزمة عقوبات “أولية” ضد روسيا، لن يتم تفعيلها إلا في حالة “غزو” أوكرانيا.

وتهدف هذه العقوبات، حسب وسائل إعلام غربية، إلى السعي لإلحاق أضرار بالاقتصاد الروسي من خلال قطع علاقات المراسلة بين البنوك، التي تشكل أساس التدفقات المالية العالمية، فضلاً عن فرض عقوبات على بعض الأفراد والشركات الروسية من خلال إدراجهم في قائمة سوداء، من شأنها استبعادهم من النظام المصرفي الأمريكي، وحظر التجارة مع الأمريكيين، وتجميد أصولهم في الولايات المتحدة.

 

هذا الأمر دفع الكثير من المحللين السابقين في الاستخبارات المركزية الأمريكية إلى التحذير من أوجه الشبه بين الهستيريا الحالية التي تثيرها الولايات المتحدة حول “غزو” روسيا لأوكرانيا، والوضع عشية الحرب العالمية الأولى، حيث لفت جورج بيبي، كبير محللي الشؤون الروسية السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، في مقالة نشرت في مجلة “ذا ناشيونال”، إلى أن الإمبراطوريتين الألمانية والبريطانية انخرطتا حينها في ارتكاب الخطأ ذاته، مذكراً بتصريح الرئيس الأمريكي الأسبق، ثيودور روزفلت، الذي أدلى به في عام 1904، عندما قال: “يعتقد القيصر فيلهلم الثاني أن البريطانيين يخططون لمهاجمته وتدمير أسطوله. في الواقع، ليس لدى البريطانيين مثل هذه النيّات، لكنهم هم أنفسهم مرعوبون من أن القيصر ينوي سراً تدمير أسطولهم ومسح الإمبراطورية البريطانية من وجه الأرض”.

 

فالإدارة الأمريكية، سواء أكانت تدري أم لا تدري أن تشييع هذا المناخ من عدم الثقة والخوف بين الطرفين يمكن أن يقود إلى اندلاع حرب في أوروبا تكون شرارة حرب عالمية ثالثة، تعمل بشكل مهووس على تسميم العلاقات الروسية الأوروبية بشتى الوسائل لإقصاء روسيا اقتصادياً من جهة لأنها لا تستطيع بالفعل هزيمتها عسكرياً، ولإجبار أوروبا من جهة أخرى على البقاء تحت جناح الولايات المتحدة اقتصادياً، وخاصة بعد مشاريع الطاقة الكبرى التي ربطت روسيا بأوروبا وعلى رأسها السيل الشمالي 2، وما يمكن أن ينتج عنها من استقلال اقتصادي أوروبي عن واشنطن، وهذا ما تعدّه واشنطن تهديداً وجودياً كبيراً لها.

 

وبالمحصلة تعمل الإدارة الأمريكية على محاصرة روسيا بالأكاذيب والمزاعم وصولاً إلى عزلها اقتصادياً على الأرجح ومنعها من أخذ موقعها الطبيعي على الساحة الدولية، وصولاً إلى إضعافها وخنقها وبالتالي إلغاء دورها في المشهد أو النظام العالمي الجديد، بينما ينشغل الروسي على ما يبدو في تفنيد هذه السلسلة غير المتناهية من الأكاذيب والمزاعم، الأمر الذي يجعله في النهاية منشغلاً في الدفاع عن نفسه، في الوقت الذي ينبغي عليه أن يبادر إلى الهجوم ومجابهة الأمريكي، علماً أن لديه أوراقاً كثيرة ليلعبها في الحديقة الخلفية لواشنطن والمكسيك خاصة، فهل يبادر إلى ذلك ويضع حدّاً للانفلات الأمريكي في محاصرته، أم يبقى متخذاً وضعية الدفاع التي ستقود في النهاية إلى إنهاكه وتعطيل قدرته على التأثير في المشهد العالمي.

الكرة الآن في الملعب الروسي، وينبغي على روسيا الآن وقبل أي شيء التفكير في كيفية ردّ الكرة إلى الملعب الأمريكي قبل أن تتمكّن هذه الكرة من دخول مرماها.

 

طلال ياسر الزعبي