معركة روسيا الجيو استراتيجية
محمد نادر العمري
من دون أدنى شك لن تكون العمليات العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا حدثاً عابراً، أو مجرد مرحلة في سياق التاريخ الحديث التي لن يكون لها تداعيات، بل تمثل حدثاً جللاً لم يشهد له العالم مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية، ولاسيما أن هذه العمليات سيتمخض عنها تأثيرات سياسية واقتصادية وعسكرية عميقة، في ظل تنامي التصعيد من قبل الغرب تجاه روسيا وعدم احترامه للمطالب المشروعة والمحقة.
ومن يقف عند التصريحات الغربية قبل بدء العمليات العسكرية الروسية، يلاحظ أن روسيا ستتدخل في أوكرانيا من خلال عمل عسكري، وهذا يمكن الاستدلال عليه من خلال تأكيدات كلّ من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة البريطانية، كانت تتوقع حدوثه، وقد عبّر عن ذلك كلّ من الرئيس الأمريكي جو بايدن وجوقة إدارته السياسية والعسكرية ووزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس، قبل أسابيع، مؤكدين أن روسيا سوف تتدخل عسكرياً في أوكرانيا، بينما سخر منهم المسؤولون الروس، وسخفوا توقعاتهم.
غير أن الحقيقة في تأكيد حتمية هذه العمليات الغربية لا تنبع من معلومات بأن روسيا لديها التوجّه نحو اختيار الخيار العسكري وتفضيله، بل نتيجة عمل استخباراتي أمريكي بريطاني، هدف بالدرجة الأولى لإقناع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأن الغرب لن يتخلى عنه، وبالدرجة الثانية من خلال تزويد أوكرانيا بالسلاح الأمريكي منذ عام 2014 وفق ماكشفته مجلة “جوبين” الأمريكية اليسارية المتخصّصة في العلوم العسكرية، حيث نشرت في عددها الخاص في شباط الماضي عن الدعم والتدريب الأمريكي لعدة ميليشيات عنصرية، وفي مقدمتها ميليشيا “أزوف” اليمينية المتطرفة، والتي تحمل حقداً على الروس والشيشان، رغم معارضة بعض نواب مجلس الكونغرس الأمريكي تمويل وتدريب مثل هكذا تنظيمات متطرفة!.
وما يؤكد أن روسيا الاتحادية لا تريد خوض الحرب واللجوء للقوة أنها تعايشت مع أوكرانيا وباقي دول الاتحاد السوفييتي السابق منذ انهيار المعسكر الشيوعي عام 1991، حيث اعترفت باستقلال أوكرانيا وحدودها الدولية، بل ووقعت معاهدة “بودابست” لعام 1994، إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين، لضمان سيادتها واستقلالها ووحدة أراضيها، مقابل أن تنضمّ إلى معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية إلى جانب كازاخستان وبيلاروسيا، وتتخلى عن ترسانتها النووية -الثالثة عالمياً- من حيث الحجم، بعد الولايات المتحدة وروسيا، إذ كانت هناك خشية من أن تحصل فيها كارثة نووية أخرى مماثلة لحادثة تشرنوبل عام 1986. غير أن الرئيس فلاديمير بوتين وبعد انتفاء جميع الخيارات السياسية، واستشعاره بأن الغرب يحيط بروسيا من خلال مناوراته -الوعود قدمت بعدم انضمام أوكرانيا للناتو حالياً- شعر بضرورة استخدام القوة العسكرية، التي كان يريدها الغرب لاستنزاف روسيا في أوكرانيا، ومحاولة عزلها دولياً في كل المجالات بما يحقق للولايات المتحدة الهيمنة الكلية والمطلقة.
وضمن هذا التوجّه، عزّزت واشنطن دعم أوكرانيا في ظل رئاسة فولوديمير زيلينسكي، كي تنضم إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، الأمر الذي هدّد الأمن القومي الروسي، خاصة وأن الغرب لم يلتزم بوعوده تجاه روسيا بحيادية دول الاتحاد السوفييتي، ولم يقدم تعهدات مكتوبة بهذا الخصوص، وهي الكارثة التي شكلت نواة تفجير الصراع.
صحيح أن أوكرانيا أقل سكاناً وثراءً وقدرات عسكرية من روسيا، ولكن يمكنها أن تهدّد مجال الأمن القومي لدولة نووية قوية كروسيا، التي تمتلك ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم، والبعض قد يسأل كيف ذلك؟.
أولاً: بحكم أن أوكرانيا تعتبر من الكيانات التي تمتلك أطول حدود مع الدول المحيطة بروسيا، فإنها تشكل قاعدة متقدمة للناتو في حال انضمامها لتضيّق الخناق على روسيا عبر نشر الدرع الصاروخي، الذي سيكون على مسافة قريبة جداً مع روسيا، مما يجعلها أكثر تهديداً في ظل الفارق الزمني لو أن الدرع داخل أوكرانيا أو خارجه، هذا من الناحية الجغرافية البرية، ومن الناحية البحرية ستكون هناك قواعد محيطة بالممر المائي البحري الحيوي والوحيد لروسيا عبر البحر الأسود باتجاه المتوسط، فضلاً عن مراكز التجسّس التي يُراد زرعها في أوكرانيا.
ثانياً: هناك مجموعة من الدول أعضاء في حلف الناتو، مثل بولندا وأستونيا ولاتفيا ولتوانيا وكرواتيا وسلوفينيا ورومانيا وبلغاريا وهنغاريا وألبانيا وتشيكيا -وكلها كانت إما ضمن الاتحاد السوفييتي، أو ضمن المنظومة الشرقية وحلف وارسو بقيادة روسيا- لم تحرك روسيا ساكناً تجاهها، ولكن في هذا التوقيت ومع نمو القوة والنفوذ الروسيين على المستوى الدولي، يريد الغرب استكمال تطويق الناتو لروسيا، حيث ستمثل أوكرانيا أحد أدوات الطوق ومن ثم جورجيا بعدها، سبق ذلك مسعى أمريكي لإحداث تغيير فاشل في كازاخستان ومحاولة قلب نظام بيلاروسيا في المستقبل.
هناك نقطة في غاية الأهمية بأن روسيا لم تكن تريد الحرب، ولكن اضطرت للجوء إليها كخيار يدفع المسار السياسي، الأمر الذي استثمرته واشنطن وبريطانيا، لجعل أوكرانيا مستنقعاً للروس، دون النظر لتداعيات ما تمّ ويتمّ تحشيده من اصطفافات قد تقلب النظام الدولي رأساً على عقب ليس عسكرياً، بل اقتصادياً وأمنياً بشكل أكبر.