الصفحة الاخيرة

التّكبيس

عبد الكريم النّاعم

هذا الدّماغ الذي وهبَه الله عزّ وجلّ مثير للدهشة، ككلّ الآيات المبثوثة في الوجود، وتصعب السيطرة عليه، فهو لا يستأذنك في شيء، يتحرّك قفزاً من نقطة إلى أخرى، ويقول بعض اليوغيين إنّهم استطاعوا بالتدريب إيقاف شغبه، وبظنّي أنّ الذين يستطيعون ذلك هم قلّة قياساً إلى العام الأغلب، ومَن يدقّق في ذلك يجد أنّ هذا ينشط في حالات الاستلقاء طلباً للنّوم.

استلقيتُ طلباً للراحة، فداهمتني مفردة “التّكبيس”، واستميحكم عذراً إذا طلبتُ مواكبتي في تقليب هذا المفردة، قاموسيّاً، وممّا قرّ في الذاكرة من مفردات الحياة.

كبسَ كبْساً على الشيء: شدَّ، وضغط، ومن هنا أُخذَ معنى كبسَ جرس باب الدار.

كبَسَ القومُ دارَهُ: “هجموا عليه فجأة، ومنها ما ذُكر عن الحروب، أنّ الجماعة الفلانيّة قد كبَستْ على أعدائها، وغالباً ما يُقصد به الإتيان بالفعْل ليلاً، بمعنى أنّهم بيّتوهم وهجموا عليهم،.. وكبست الشرطة المكان الفلاني: داهمته بحثاً عن أحد المجرمين المطلوبين للعدالة.

ويقولون كبسَ عليه النّوم أي داهمه.

وإذا هطل المطر غزيراً قالوا “كبَس المطر”..

السنة الكبيسة هي السنة التي يُزاد فيها يوم، ولذا حين يكون توقيت شهر شباط تسعة وعشرين يوماً، كلّ أربع سنوات، يسمّونها سنة كبيسة.

في الطفولة البعيدة، في ذلك الريف الذي لم تبقَ غير جغرافيته، كان البعض في أيام الشتاء، يرتّبون أعواد الذرة البيضاء الجافّة، ويضعونها فوق بعضها على ارتفاع خمسين سم تقريباً، ويفرشون فوقها حصيرة، وفوق الحصيرة فراش النّوم، وكانوا يسمّونها (كَبْسة)، ولا يفعل ذلك إلاّ الأقلّ، ربّما بسبب ما تتركه من حتّ العيدان، ولم تكن الأسرّة الشائعة الآن موجودة إلاّ في بيوت الذوات، أو المرتاحين ماديّاً، فقد كانوا جميعاً، ريفاً ومدينة يفرشون الفرش على الحصيرة، أو السجّادة، أو البساط وينامون، وفي الصباح تُطوى الفرش، وتوضَع في (اليوك) المخصّص، وقد اختفت اليوكات فيما اختفى عدا قلّة ما تكاد تُذكر، ما تزال موجودة كشاهد حيّ.

الكَبْسة: أكلة مشهورة في الجزيرة العربيّة، وقد انتشرت حديثاً في بلاد الشام، مؤلّفة من رزّ خاص يناسبها، وقطع اللحم، وبعض المُطيِّبات.

اسمحوا لي بهذا الاستطراد، هاجرت عائلة بدويّة من مدينة حمص إلى السعوديّة، وردّاً على الدّعوات التي وُجِّهتْ إليهم قرّروا استضافة البعض، وكانت سيدة البيت تُجيد الطبخ، فقّدِّمتْ إليهم الكبسة في منسف، وعلى محيط الصينية الكبيرة وُزّعت أقراص الكبّة، وسأل أحد المدعوّين صاحب البيت مستغرباً: إيش هذي؟!! فقال له: افتحها تعرف، وحين فتحَها وجد في داخلها بيضة مسلوقة، فحرّك رأسه تعجّباً، وقال: “الله عليكم يا عرب الشمال، حتى نعمة الله تكفّنونها”.

ولا ننسى الكبيس الذي كان شائعاً في كلّ البيوت قديماً، وهو تجفيف القرْع، والباذنجان، بعد تجويفه، وحفظه لأيام الشتاء للاستفادة منه في الطبخ، وقد اختفت هذه الظاهرة من معظم البيوت، بسبب تطوّرات الحياة.

في الأرياف، حين يريدون تعويد مُهر على أن يُركَب، وهو يتمرّد لأنّه لم يعرف ذلك من قبل، هذه العمليّة تأخذ وقتاً وجهداً، وخبرة، حتى يستجيب ويصبح ذلولاً،.. هذه العمليّة يسمّونها التكبيس.

ويقولون كبَس الجسد، بمعنى ليَّنَه، وانطلاقاً من هذا “التّليين” ترجو دول العالم الطامح للنموّ أن تكون من نتائج ما يجري في أوكرانيا تليين العنصريّة الغربيّة، الممتدّة من واشنطن إلى عواصم النّهب والاستغلال، والتي حقّقت معظم رفاهها من خيرات البلدان التي نهبتْها، وأنْ يرى العالم بارقة تساعده على الخروج ممّا أرادوه للبلدان المنهوبة، وأن تكون بداية عهد جديد.

aaalnaem@gmail.com