“البعث قضية وليس حزباً في السلطة”
د. خلف المفتاح
العنوان استعرته من كلمة الرفيق الأمين العام للحزب، السيد الرئيس بشار الأسد، في المؤتمر القطري العاشر المنعقد عام 2005، عندما أشار إلى دور الحزب وفلسفته النضالية بقوله أن “البعث قضية قبل أن يكون حزبأً في السلطة”, وحقيقة الأمر، ومن منظور تحليل المفهوم، يمكننا القول أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو فلسفة حياة ومشروع سياسي واقتصادي واجتماعي مرتبط بحركة المجتمع وتطورات الحياة بكل عناصرها، وهو كذلك شكل من أشكال الاستجابة لكل التحديات التي تواجهها الأمة العربية في سعيها لتحقيق ذاتها القومية ووجودها الحضاري ومكانتها بين الأمم، ولعلها من بين أمم قليلة لم تحقق وحدتها القومية، على الرغم من توفر كل عناصر تشكل الأمة – الدولة، حيث اللغة والجغرافيا والتاريخ والثقافة والمصالح المشتركة، وقبل ذلك الإرادة الشعبية.
لقد دخل العالم بعد قيام ثورة الاتصالات والعولمة فضاء آخر تمثل بتقلص المسافات بين الدول والشعوب، وبدء الحديث عن خطاب عالمي يهدف إلى صياغة ما أطلق عليه بعض الباحثين والمفكرين “المواطن العالمي” أي ذلك الإنسان المرتبط بمنظومة قيمية وثقافية لا تتقاطع بالضرورة مع ما تربى ونشأ عليه من نسق قيمي وثقافي ومعرفي، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى ضعف الروابط الوطنية والقومية وأشكال الانتماء، وتنامي الروابط والقيم المتسمة بالنفعية، وكل ما تضخه العولمة من منظومات معرفية ترتبط أساسا بالسوق وآلياته وحاجاته.
إن حديث صموئيل هاتنغتون عن صراع حضارات أو صدامها أو تنافسها هو، في مضمونه، صراع ثقافات وحرب مفاهيم وعقول بين منتج ثقافي ومعرفي وعلمي ومستهلك لما تنتجه الحضارات في إطار سباق وتنافس في مضمار بناء حضارة كونية، فيها المركز والأطراف: الفاعل والحضاري والمنفعل، القابض على أدوات الإنتاج والإبداع ، والمستهلك لها، بين عقل مبدع وعقل يحاكي الإبداع، أو يحاول تمثله وإعادة إنتاج خلاصاته أو في أحسن الأحوال امتصاص ما يمكن امتصاصه منها.
إن الفارق أو المشكلة لم تعد في طبيعة ومضمون الخطاب، بل في البيئة الحضارية المنتجة له، لأنه كثير الشبه بها معرفيا وحضاريا ووظيفة، وحتى على الصعيد الاقتصادي والتنموي فالعملية متكاملة فلا يمكن لشعب متخلف حضاريا أن يكون منتجا ومبدعا على الصعيد المعرفي وفي لغة الخطاب أيا كان مستواه أو مضامينه وفحواه، فالمحتوى في لغة الخطاب العلمي والمعرفي في عالم اليوم، وعبر الشابكة، يعطي مؤشرات بالغة المعاني والدلالات في إطار المسافات الحضارية بين الشعوب والأمم، ويشير إلى هوة واسعة بين دول الشمال والجنوب في هذا المجال.
إن الخطاب، أي خطاب، هو بالنتيجة مشروع وتوجه تكمن قيمته في إحداثه التحول المأمول في الوعي والسلوك، وهذا يستدعي من “البعث” تجديد وتطوير خطابه ومقارباته المتعلقة بتحقيق أهدافه في الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية عبر التجدد الحضاري وتعميق مفهوم الديمقراطية والتركيز على التنمية الاجتماعية وتكريس وعي جديد لمختلف العناوين والمفاهيم. ولا شك أن ذلك يرتبط بجملة ظروف اجتماعية واقتصادية وتاريخية يعيشها المجتمع، ومن هنا تبدو المسألة مرتبطة بالنتائج ومستويات الوعي المتشكلة جراء ذلك، أي في خلاصات الخطاب وانعكاساته في المجال العام، وملامسته ليس لمشاعر الجماهير فقط، وإنما لحاجاتها واستعداداتها. من هنا، تأتي أهمية تطابق الخطاب مع الوعي المجتمعي، فهذا يكسب الخطاب دينامية وحركية هائلة ويحوله إلى كائن حي.
إن نخبوية الخطاب، أو نمطيته – كما هو حاصل راهناً – وابتعاده عن حاجات الجماهير ومستويات وعيها، هو أحد أهم فشل العديد من المشاريع الفكرية والسياسية والحزبية، فلا يكفي أن يكون الخطاب جذابا ومحرضا للمشاعر والانفعالات، فهذا غير كاف، فلابد من توفر عناصر وأدوات ومضامين ومناخ لإنجاحه، ولعل الممارسة العملية المرتبطة بالإنجاز على درجة كبيرة من الأهمية في هذا المجال، إضافة إلى أهمية أن يكون الخطاب متجددا، جنبا إلى جنب مع الممارسة، فعدم تطوير مضامين الخطاب السياسي والحزبي يحوله مع الزمن إلى خطاب رجعي متخلف، اإضافة إلى أهمية وعي الممارس للخطاب وللافكار المطروحة، فقد لا تكون المشكلة في الأفكار وإنما في عدم وعي الممارس للفكرة، وهنا تحصل الإشكالية والإعاقة الذاتية، وتبرز الحاجة الماسة للتغيير في الأدوات، ولعل هذا هو التحدي الأهم الذي يواجه معظم الأحزاب والحركات السياسية.
إن المشكلة من وجهة نظرنا لا تكمن في براغماتية الخطاب أو عقائديته، فلا خطاب بدون عقيدة، ولا عقيدة بدون منافع ومصالح عامة، ولكن المشكلة في تعبير الخطاب عن مصالح الجماهير الحقيقية وقدرته على تحقيق تحول حقيقي في حياتها الاقتصادية والاجتماعية ومستويات الوعي العام، فالعبرة ليست في جاذبية الخطاب وقدرته على إلهاب مشاعر الجماهير فقط، وإنما في إمكانية تحريض طاقاتها وإمكاناتها في حدها الأقصى، وتشكيله تيارا شعبيا واسعا قادرا على إحداث التغيير المطلوب، وتحقيق الأهداف المرجوة لإنجاز التحول الكبير.
إن الحاجة إلى جماهير منظمة مسألة هامةً وأساسية، فلابد من قوى حاملة للتغيير نواتها الجماهير المنظمة والواعية والكوادر القادرة والكفاءات النوعية القادرة على قيادتها إلى حيث تريد، وهذا بالتأكيد يحتاج إلى قاعدة شعبية واسعة مؤيدة ترى مصالحها في ذلك، ما يعطي للتنظيم قوة وزخما ودينامية قوية، ويحول دون أية إعاقة أو عرقلة له من قوى مضادة ترى أن التغيير الحاصل يتعارض تماما مع مصالحها وامتيازاتها ونفوذها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وسيطرتها على الثروات العامة.
ان ما يميز حزب البعث العربي الاشتراكي أنه امتلك تجربة ونظرية نضالية قابلة للتطوير والإضافة، مع التأكيد على ثوابته وهويته الفكرية وإيديولوجيته العروبية الاشتراكية وانحيازها الواضح للجماهير الشعبية والطبقات الكادحة، وبمعنى أدق الهويتين الإيديولوجية والطبقية للحزب. ولعل هذه الخاصية، أي القدرة على التجدد وإمكانية التطوير ومقاربة الأهداف بصيغ وأساليب تتناسب مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي وطبيعة الظرف التاريخي الذي يعيشه الحزب والمجتمع وجملة التحديات التي تواجهه أخذا في الاعتبار الظروف الاقليمية والدولية والمناخ العام الذي يحكم القوى السياسية والأحزاب في ظل ظروف العولمة وتسارع تأثير وسائل الاعلام اللانمطي وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها من اشكال النشاط الانساني.