دراساتصحيفة البعث

تحديات حلم ماكرون في الاستقلال الأوروبي

عناية ناصر

دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كلمة ألقاها في ختام مؤتمر مستقبل أوروبا في 9 أيار الجاري، إلى بناء مجتمع سياسي أوروبي يسمح للدول الأوروبية التي تلتزم بالقيم الأوروبية الأساسية المشتركة، بالتعاون في مجالات الأمن والطاقة والنقل والبنى التحتية وحرية التنقل. وبالنظر إلى إعادة انتخاب ماكرون مؤخراً والمفاهيم التي عبّر عنها فيما يتعلق بالسيادة الأوروبية ونهاية الهيمنة الغربية والموت السريري لحلف شمال الأطلسي، هنالك اعتبارات متعدّدة وراء اقتراحه بإنشاء مجتمع سياسي أوروبي.

أولاً: هذا خيار لا مفرّ منه لتحقيق إحياء دور فرنسا ومكانتها، والتي تعتبر من وجهة نظر مهمته الشخصية، لكنه يعلم أن قوة فرنسا الوطنية محدودة، ومن الضروري أن يعتمد على أوروبا لتضخيم مكانة فرنسا. ولذلك كانت الأوروبية نواة فكر ماكرون الذي يعتبر نفسه الزعيم الفعلي لأوروبا والمتحدث الرسمي باسمها، بعد أن تركت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل السياسة.

ثانياً: يعتبر هذا الاقتراح حلاً ممكناً للمأزق الأوروبي الحالي لأوروبا الغارقة في مشكلاتها الداخلية والخارجية، بدءاً من تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي لا تزال دون حلّ، إلى السجال بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي حول بروتوكول أيرلندا الشمالية. وفي الوقت نفسه، هناك خلاف دائم بين بولندا والمجر مع مؤسّسات الاتحاد الأوروبي بسبب الشؤون الداخلية والقضائية. كما أن هناك صراعات كبيرة داخل أوروبا لدرجة أصبحت كيفية كبح جماح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي هي على خلاف والدول شبه الأعضاء خارج الاتحاد الأوروبي مشكلة يحتاج ماكرون-آخر رئيس لأوروبا- إلى مواجهتها بشكل عاجل.

لقد أصبحت المنافسة بين القوى الكبرى شرسة في الوقت الحاضر، وتأمل أوروبا التي أصبحت عاجزة بشكل متزايد الحفاظ على بعض الاستقلالية. لكن في الواقع، وعلى الرغم من أن لها مصلحة في الأزمات التي تحدث في محيطها، إلا أنها دائماً ما تكون عاجزة عند مواجهتها. فمع اشتداد الصراع بين روسيا وأوكرانيا، اضطرت أوروبا إلى تعزيز اعتمادها على الناتو والولايات المتحدة، لكن هذا بدوره أدى أيضاً إلى تحفيز شعور الشعوب الأوروبية بالاستقلالية. وبناءً على ذلك فإن ترك أمنهم للآخرين أمر خطير للغاية، وسواء كان الأمر يتعلق بإعادة دمج القوى الأوروبية، أو القضاء على المخاطر وتجنّب الاعتماد على الآخرين، فإن ماكرون سينتهز الفرصة لمواصلة تعزيز الاستقلال الذاتي الاستراتيجي لأوروبا.

ورغم ذلك، لا يزال هناك العديد من التحديات أمام المجتمع السياسي الأوروبي الذي ينتمي إليه ماكرون كي يصبح أمراً واقعياً. ويتمثل التحدي الأول في دعم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وموقف ألمانيا المهمّ بشكل خاص، حيث اعتبر المستشار الألماني أولاف شولتز فكرة ماكرون أنها اقتراح مثير للاهتمام للغاية للتعامل مع التحديات الكبيرة التي تواجهها أوروبا، لكنه قال أيضاً إنه لا ينبغي استخدامها لإبعاد الدول التي تعمل بالفعل منذ سنوات عديدة تجاه الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ورداً على مراجعة ماكرون المقترحة لمعاهدات الاتحاد الأوروبي، عارضت 13 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك كرواتيا وجمهورية التشيك وإستونيا وفنلندا وبولندا ورومانيا المحاولات غير المدروسة والسابقة لأوانها لإطلاق عملية نحو تغيير معاهدة الاتحاد الأوروبي.

أما التحدي الثاني فيتمثل في استجابة الشريك الأوروبي الآخر، فالهدف الأساسي المهمّ لبناء المجتمع السياسي الجديد هو في حلّ قضية انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. فوفقاً للظروف الحالية، قد يستغرق الأمر عقوداً كما قال ماكرون. إلى جانب ذلك، فإن المملكة المتحدة، لا تأخذ الأمر على محمل الجد على الإطلاق، إذ  يبدو أن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ما زال غارقاً في شهر العسل مع الولايات المتحدة والمواجهة المتبادلة مع الاتحاد الأوروبي. أما التحدي الثالث، فستعمل الولايات المتحدة بالتأكيد على كبح جماح فرنسا، ولطالما اعتبرت الولايات المتحدة أوروبا ضمن دائرة نفوذها، ويجب أن تستمر في خدمة مصالح الولايات المتحدة وألا تتجاوز سيطرتها.

وسواء كان التحريض على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو التحريض على الصراع بين روسيا وأوكرانيا، فقد أدّت الولايات المتحدة هدفها المتمثل بتقسيم أوروبا وإضعافها. في الوقت الحاضر، تستغل المخاوف الأمنية لبعض الدول الأوروبية لتعزيز سيطرتها على أوروبا وكبح اتجاه التنمية المستقلة فيها. ولهذا، سوف تتسبّب الولايات المتحدة في إثارة المشكلات بشكل علني وسري، ولذا تحتاج أوروبا لحل معضلتها بعدم الاعتماد على الولايات المتحدة، وإحداث تغيير جذري في سياساتها.