تحول كارثي في بلدان الشمال الأوروبي.. المنظمات اليسارية في السويد ضد الناتو
البعث الأسبوعية- هناء شروف
أدت التعبئة الاستراتيجية الغربية في أعقاب الصراع الروسي الأوكراني المتصاعد إلى مزيد من الحد من الاستقلال الذاتي المتقلص بالفعل لأوروبا. كما أدى الضغط العسكري والإعلامي والسياسي الهائل إلى اصطفاف الدول الأوروبية في سياسة عقوبات مشتركة ضد روسيا وسياسة مشتركة لتسليم الأسلحة لأوكرانيا. وأمام هذه التحولات يمكن أن يحدث التحول الكارثي الأكثر دراماتيكية في بلدان الشمال الأوروبي مثل السويد وفنلندا إذا انضما إلى حلف الناتو متخليين عن سياسة عدم الانحياز التي تمثل جزءاً مهماً من الاستقلال الذاتي لأوروبا.
تحول كارثي في سياسة عدم الانحياز
في حالة السويد، ستنهي سياسة الحياد التي استمرت 200 عام. أما بالنسبة لفنلندا، فقد أدت سياسة الدولة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى استقلاليتها ببطىء من اتفاقية الصداقة مع الاتحاد السوفييتي السابق إلى رأس جسر بين الغرب والشرق، وتعزيز السلام والتنمية على أساس موقفها الدبلوماسي غير المنحاز، و تنمية صناعية مستقلة قوية، ناهيك عن أن بحر البلطيق كان منطقة توترات منخفضة حتى خلال الحرب الباردة.
إذا انضمت السويد وفنلندا إلى الناتو سينتهي التفاهم المشترك بين الدول الساحلية للحفاظ على بحر البلطيق خالياً من صراعات القوى العظمى، وستجلبا القوات العسكرية الأمريكية والبريطانية والأوروبية الأخرى إلى هذا المسرح مما سيزيد من مواجهات القوى العظمى.
“مبدأ وولفويتز” والهيمنة الأمريكية
ينبع توسع الناتو في شمال أوروبا من سياسة الهيمنة الأمريكية التي تنتهجها الولايات المتحدة والتي تعمل على زعزعة استقرار العالم ودفعه نحو حرب عالمية أخرى. وسياسة تقليص استقلالية البلدان الأخرى هي جزء من “عقيدة وولفويتز”، حيث نشر وكيل وزارة الدفاع الأمريكي السابق بول وولفويتز النسخة الأولية من إرشادات التخطيط الدفاعي للسنوات 1994-1999 في 18 شباط 1992 والتي جاءت لتُعرف باسم “عقيدة وولفويتز” والتي تنص على مايلي: “يتمثل الهدف الأول في منع عودة ظهور منافس جديد يشكل تهديداً سواء على أراضي الاتحاد السوفييتي السابق أو في أي مكان آخر، ويجب السعي لمنع أي قوة معادية من الهيمنة على منطقة تكون مواردها في ظل سيطرة موحدة كافية لتوليد قوة عالمية. إذاً الهدف هو منع أي قوة معادية من الهيمنة على منطقة حاسمة للمصالح الأمريكية، وبالتالي تعزيز الحواجز ضد عودة ظهور تهديد عالمي لمصالح الولايات المتحدة والحلفاء”.
تتجلى “عقيدة وولفويتز” في عقيدة النظام القائم على القواعد التي تتخلص من القانون الدولي القائم على ميثاق الأمم المتحدة بشأن الحقوق المتساوية لكل دولة فيما يتعلق بالسيادة والتنمية. كما يظهر مبدأ “وولفويتز” أيضا ًفي سياسة الولايات المتحدة المتمثلة في الحروب التي لا نهاية لها والتي تخاطر الآن بأن تضع مصير شمال أوروبا في نفس السياق أيضاً.
فنلندا قريبة للغاية من سانت بطرسبرغ والمدن الروسية الكبرى الأخرى، وتقع حدود فنلندا في الشمال على بعد 180 كيلومتر فقط من مدينة مورمانسك في شبه جزيرة كولا، وتقع السويد على بعد 450 كم من مورمانس، حيث توجد قواعد رئيسية لقوة الغواصة النووية الاستراتيجية التابعة للبحرية الروسية التي تقوم هذه الغواصات بدوريات مستمرة تحت الغطاء الجليدي في القطب الشمالي.
ما يعني أن توسع الناتو من خلال ضم فنلندا و السويد كأعضاء من شأنه أن يهدد هذه القواعد الروسية، ويعرض للخطر الجزء الأكبر من قدرة الضربة الثانية الروسية، وبالتالي يخل بالتوازن النووي العالمي.
حملة محمومة للانضمام إلى الناتو ضد روسيا
وضعت حكومة الحزب الديمقراطي الاجتماعي السويدي، بالتعاون الوثيق مع فنلندا والدول الأعضاء في الناتو، السويد على مسار سريع للانضمام إلى الناتو، وتتواصل حكومتا السويد وفنلندا مع دول الناتو لضمان ضمانات أمنية مبكرة في حالة هجوم من جانب روسيا خلال الفترة الحرجة لإجراءات تقديم طلبات الإنضمام.
في الجدل الدائر حول الناتو في السويد، قال بعض السياسيين اليساريين إن هذه ليست المرة الأولى التي يقرر فيها البلدان سياسات عسكرية مختلفة. في عام 1940 خلال الحرب العالمية الثانية، تحالفت فنلندا مع ألمانيا النازية، وانضمت إلى عملية “بربروسا” لمهاجمة الاتحاد السوفييتي، وشاركت في حصار لينينغراد الطويل (سانت بطرسبرغ). لاحقاً ثبت أن ذلك كان كارثيا ًبالنسبة لفنلندا، حيث كان عليها أن توافق على معاهدة سلام منفصلة مكلفة.
محاولة تسريع القرار في السويد
تشكلت المعارضة المحلية لمحاولة الحكومة السويدية للانضمام إلى الناتو بشكل أساسي، لأن الشعب السويدي يشعر بالصدمة من الأساليب الصارخة المستخدمة لدفع قرار ضد رغباتهم. هذا الإجراء يشبه الانقلاب الذي يطغى على العمليات الديمقراطية لكل من الأمة والحكومة.
لقد وجه زعيم الحزب اليساري نوشي دادجوستار في مقابلة إذاعية وطنية عامة في 28 نيسان الماضي دعوة واضحة لحشد الدعم ضد انضمام السويد إلى الناتو، وطالب بإجراء استفتاء وطني. وقد لبى الدعوة الكثير وتحولت مظاهرات حزب اليسار في الأول من أيار الجاري إلى نقطة حشد ضخمة ضد الناتو بحضور 25 ألف مشارك في ستوكهولم وحضور ضخم في مدن أخرى.
كما ظهرت معارضة متفرقة بين الديمقراطيين الاشتراكيين في الأول من أيار عندما حمل بعض أنصار الحزب الديمقراطي الاجتماعي ملصقات ضد الانضمام إلى الناتو. وكتب زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي في منطقته الأكثر تطرفاً في الجنوب مقالاً في صحيفة “افتونبلاديت” حث فيه أعضاء الحزب الديمقراطي الاجتماعي على “قول لا لحلف شمال الأطلسي”. كما شددوا على أن قضية الأسلحة النووية لم يتم التطرق إليها حتى في الاستبيان المرسل للأعضاء.
في الأسبوع الذي تلاه، بدأت السيطرة الداخلية لقيادة الحزب في الانهيار. لقد عارضت المنظمة النسائية في الحزب الديمقراطي الاجتماعي وزعيمتها وزيرة البيئة أنيكا ستراندهيل عضوية السويد في الناتو. كما تعارض منظمة الشباب التابعة للحزب الديمقراطي الاشتراكي منظمة حلف شمال الأطلسي. يذكر أنه كانت أول منظمة حزبية محلية تعارض عضوية الناتو هي مدينة ترولهاتان، وهي جزء من مجموعة صناعة السيارات في غرب السويد.
تعتبر المنظمات النسائية والشبابية التابعة للحزب الديمقراطي الاجتماعي ضرورية للحزب لإجراء أي حملة انتخابية، وإذا التزمت قيادة الحزب الديمقراطي الاجتماعي بخطها المؤيد للناتو فستواجه تحدياً كبيراً من حزب اليسار. وعلى الرغم من موقعه القوي في السويد فقد يواجه الحزب الاشتراكي الديمقراطي وضعاً مشابهاً لجنوب أوروبا حيث اختفت الأحزاب الاشتراكية تقريباً.
حتى الآن، هناك تعبئة كاملة من جميع المنظمات اليسارية ضد الناتو ويتم التخطيط لمزيد من المظاهرات في جميع أنحاء السويد ضد عضوية الناتو. كما تخطط بعض الشبكات المقربة من الجناح اليميني الشعبوي الديمقراطيون في السويد لمظاهرات ضد الناتو.
بالفعل في أعقاب الصراع الروسي الأوكراني، يتقلص الدعم لعضوية الناتو في السويد وفقاً لاستطلاعات الرأي. كذلك تتعرض عضوية السويد في الناتو لتحدي المقاومة التي بناها اليساريون ونشطاء الحزب الديمقراطي الاجتماعي البارزون. كما أنهم يتواصلون مع غير الاشتراكيين في بقية السكان المعارضين لحلف الناتو. قد ينجحون في العملية الطويلة التي يستغرقها الناتو للتصديق على أي أعضاء جدد، وهي الفترة التي سيكون فيها للسويد أيضاً برلمانها الوطني وانتخاباتها الإقليمية. لذلك إن الإجراءات الحكومية القاسية بالتنسيق مع المؤسسة الصناعية العسكرية الخاضعة للسيطرة الأجنبية يمكن أن تأتي بنتائج عكسية على الصعيدين الداخلي والوطني حتى لو تم فرض قرار رسمي للسويد بالتقدم للانضمام إلى الناتو.