مجلة البعث الأسبوعية

المسيح في الجولان

البعث الأسبوعية – محمد غالب حسين

 

موضوع المسيح في الجولان ليس استثماراً سياسياً لأمر ديني ، وليس استغلالاً دينياً لأمر سياسي ؛ بل هو دراسات علمية معمّقة ؛ تستند الى المكتشفات الأثرية ؛ وتحديداً في المنطقة المحاذية لبحيرة طبرية الجولانية مثل (بيت صيدا ) ؛ وبلدة بانياس الجولان أي (قيصرية فيلبس) ومقاربتها مع نصوص الإنجيل حيث لعبت هاتان البلدتان دوراً هاماً في تاريخ الديانةالمسيحية ؛ مما يؤكد الدور الحضاري للجولان العربي السوري الذي كان دوماً الحصن المنيع المتقدّم لبلاد الشام ؛ ينال قوته من أهله الأباة ؛ وحضارة تمتد إلى الأزل الكوني .

أهمية الجولان

إن الجولان يحتل أهمية تاريخية ودينية وثقافية وسياسية كبيرة فقد بدا الاستيطان البشري في الجولان منذ عشرات الآلاف من السنين أي منذ بدء الوجود البشري حيث قسّم الاركيولوجيون الجولان في العصر الحجري بمراحل ثلاث هي المرحلة الأولى والوسيطة والعليا ، وهي تشكل حالياً جزءاً من الساحل الشرقي الجنوبي لبحيرة طبرية.

فقد ولد السيد المسيح في فلسطين إبان الاحتلال الروماني حيث كانت آنذاك الجزء الجنوبي من ولاية سورية الرومانية ، وقد مرّ في الجولان العديد من أقوام وشعوب وجيوش الدائرة الحضارية حيث كانت تخومه مسرحاً لأحداث تاريخية هامة مفصلية ، كان لها بالغ الأثر في تشكيل التاريخ الانساني ؛ لعل من أهمها ميلاد السيد المسيح ؛ ونشر رسالته ؛ ومعركة اليرموك 636م ؛ ومعركة حطين 1187م ؛ ومعركة عين جالوت 1260م . ‏

كما عرف أهل الجولان ثقافات كثيرة متعاقبة متأثراً بالبنى البشرية والحضارية والمعتقدات الدينية المختلفة حيث عرف أيضاً العديد من الديانات الوثنية في العصر الكنعاني ؛ وتمّ نحت الآلهة من صخور البازلت الصلدة مثل الإله حدد الذي عثر الاركولوجيون على تمثاله في بيت صيدا شمال البطيحة في الجولان. ‏

لقد شهد الجولان ديانات وآلهة وعبادات متنوعة ، عبّرت عن أن الجولان شهد دورة حياة ثرة وغنية قلما شهدتها مناطق مجاورة .

الجولان في الموروث المسيحي

إن الجولان في الموروث المسيحي

وعلاقة يسوع بالجولان كانت في وقت مبكر حيث كان يوسف النّجار صديق زبدى والد الاخوين يعقوب ويوحنا اللذين كانا في عمر يسوع من ابناء بيت صيدا الجولانية ؛ وتعمّقت العلاقة فيما بعد بين فيليب والاخوين سمعان واندراوس من بيت صيدا الجولانية التي لجأ السيد المسيح اليها عابراً نهر الاردن حين علم باعتقال يوحنا المعمدان وسجنه ، وتعرّف هناك على هؤلاء الخمسة الذين كان صيد السمك مهنتهم ، ودعاهم أتباعه ، واصبحوا من تلاميذه الاثني عشر . ‏

وهكذا نالت الجولان شرف زيارة يسوع الى بيت صيدا ، كما زار قرية الكرسي الجولانية التي متحت اسمها من كرسي حجري كبير ، كان السيد المسيح يجلس عليه ؛ إضافة لزيارة السيد المسيح لبانياس الجولان التي كانت تعرف باسم قيصرية فيليبي ، وصعد جبل حرمون ( الشيخ ) ، وعبر في طريقه من صور وصيدا الى منطقة المدن العشرة ؛ أو مايعرف بالديكابولس التي كان جنوب الجولان جزءاً منها ، وتجول في بعض مدنها ، وعاد من هناك الى الجليل عبر فيق وسوسية في جنوبي الجولان .

وفي بانياس الجولان اعترف سمعان أن يسوع هو المسيح ؛ وهناك اطلق يسوع على سمعان لقب بطرس .

وشهد الجولان بعض المعجزات التي قام بها السيد المسيح ، وتحولت العبادات من الوثنية الى المسيحية أيضاً .

شخصيات جولانية ‏

وقد أنجب الجولان شخصيات خالدة عملت في مجال الفكر الانساني عموماً وبعضها عمل في مجال الديانة المسيحية حيث كان لهم الدور الهام في إغناء المعرفة البشرية ، وتعريف الناس بالمثل العليا ؛ والتمسك بالحق والفداء مثل : سمعان بن يونا ؛ واندراوس بن يونا اخو بطرس ؛ ويعقوب بن زبدي اخو يوحنا من والدته سلومة ؛ ويوحنا بن زبدى اخو يعقوب وفيليب وجميعهم من بيت صيدا الجولانية ناهيك عن مكسيموس الحكيم الجولاني المولود في خسفين الجولانية ؛ والأسقف فيلوكالوس البانياسي الجولاني الذي حضر مجمع نيقة المسكوني الاول عام 325م لأبرشية بانياس الجولان ؛ والأسقف نرقيس الذي حضر مجمع انطاكية عام 324م ؛ وكان من كبار الأساقفة في مجمع نيقة ؛ والأُسقفان مرتيريوس وباروخيوس اللذين حضرا مجمع القسطنطينية المسكوني الثاني عام381م ؛ واوليمبوس الذي حضر مجمع خلقيدونية المسكوني الرابع عام 451م . وكل ماذكرت من تاريخ الجولان المسيحي وأعلامه ورموزه الفكرية والدينية ، لأن جميعهم يمثلون جزءاً هاماً من ثقافة وتراث الجولان .

ومدن وتاريخ

ومن مدن الجولان التي عرفت بدايات الزمن بانياس أي قيصرية فيليبيس ، ومدينة الله .

كما ورد في الانجيل ذكر بيت صيدا الجولانية التي كانت على الدوام هدفاً وقصداً للحجاج ؛ وعلماء الآثار والباحثين والأكاديميين على مر العصور .

وفي الازمنة السحيقة قطع كثير من المؤمنين مسافات شاسعة لزيارة هذه البلدة العريقة حيث اقام السيد المسيح فيها مدة زمنية ملحوظة ؛ وهناك جرت العديد من المعجزات على يد السيد المسيح عليه السلام .

وقد قام فيليب ابن هيرود «ابو حرد الادومي العربي» الذي حكم الجولان من 4 ق.م الى 34 ميلادية بالاهتمام ببيت صيدا والعناية بها وتطويرها وتحصينها ، وأطلق عليها اسم ( جولياس ) تكريماً لبنت الامبراطور اغسطس قيصر .

كما قام عالم الآثار ادوارد روبنسون برحلة استكشافية الى الارض المقدسة ، ودوّن ما رآه ، كما وصل عالم الاثار الالماني غوتليب شوماخر الى قرية المسعدية الجولانية في سهل البطيحة قرب بيت صيدا ؛ وتحدث عنها باسهاب مثلما وصفها الراهب بارغيل بكسنر أيضاً . ‏

اما سوسية أي قلعة الحصن الواقعة شمال قرية كفر حارب الجولانية ؛ وجنوب قرية شكوم الجولانية ؛ وشرق بحيرة طبرية بحوالي ( 5،1)كم ؛ وغرب فيق ب( 5،3) كم ، فهي مدينة حصينة بنيت على شكل مثلث متساوي الساقين ، وموقعها استراتيجي هام تتوفر فيه شروط ومقومات الأمن والازدهار .

وقد اكتشف فيها الاثاريون كنوزا هامة من اللقى الاثرية منها النقود التي تعود الى مختلف العهود الهللينية والرومانية والبيزنطية والإسلامية ، وأقدم قطعة تمّ سكّها عام 285 قبل الميلاد في صور. وأحدث قطعة مسكوكة في العهد الاموي في طبريا عام 734م ؛ وفيها كنيسة ضخمة تحتوي على تابوت رخامي صغير ؛ عرفت بالكنيسة الشمالية الغربية ؛ وهناك كنيسة اخرى عرفت بالكنيسة الشمالية الشرقية ؛ وكنيسة اخرى بنيت على الطراز الملكي ؛ عرفت باسم الكنيسة الملكية . ‏

أما قرية الكرسي الجولانية فقد أخذت اسمها من كرسي حجري بازلتي كبير كان السيد المسيح عليه السلام يجلس عليه .

وتقع على الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية ؛ جنوب بلدة المحجار ب ( ٦ ) كم ؛ وشمال غرب مدينة فيق ب ( ١٠ ) كم .

وقد ذكرها الجغرافي ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان قائلاً : وهي قرية شرقي بحيرة طبرية ؛ يقال : إن السيد المسيح جمع الحواريين بها ، وأنفذهم منها إلى النواحي، وفيها موضع كرسي زعموا أنه جلس عليه عليه السلام .

وقد كشفت عمليات المسح والتنقيب، التي جرت في قرية الكرسي عن آثار وبقايا تعود إلى العهود الرومانية والبيزنطية والعربية الإسلامية ؛ ومن أهمها بقايا دير كبير من العهد البيزنطي، أبعاده 145 × 123 م ؛ يحيط به سور من حجارة منحوتة . وهناك بوابة رئيسة في الجدار الغربي للسور محمية ببرج من طابقين وشارع مرصوف ، يمتد من البوابة الرئيسة إلى ساحة أمام الكنيسة.

إضافة لصفوف من الأعمدة تحيط بساحة الكنيسة ؛ يبدو أنها لم تكن مسقوفة في المرحلة الأولى، فبدت كأروقة مفتوحة ؛ وغطيت هذه الأروقة في مرحلة لاحقة، إلا أنها تداعت وسقطت مع الزمن ؛ وبقي الرواق الشرقي الذي يقع بجوار واجهة الكنيسة، ويقع على جانبيه مقر الكهنة وغرفتان

أما قاعة الصلاة في الكنيسة فأقيمت على شكل قناطر محمله فوق صفين من الأعمدة ؛ ويضم هذا الجزء صالة فسيحة ورواقين جانبيين. والغرف الواقعة على جانبي الرصيف مرصوفة بالفسيفساء، ووجدت رقع من الفسيفساء الملون، في بقية أجزاء الكنيسة.

وقد ضمّت الأروقة تماثيل الحيوانات، زينت الأرضية المرصوفة بصورها، إلى جانب أشكال وصور نباتية.

كما وجدت رقعة فسيفساء في بوابة إحدى الغرف الشمالية، تحمل صورة زوجين من الحمام ؛ يقفان إلى جوار سلة مجدولة.

وعُثِر أيضاً على أجزاء من أرضية فسيفسائية مع صلبان وتماثيل على امتداد جدار واجهة الكنيسة.

ولوحظ في مدخل غرفة حوض التعميد كتابة يونانية تعود إلى عام 585م.

وفي جنوب الدير هناك مغارة، خصصت لدفن رهبان الدير، وقد وجد فيها ثلاثين هيكلاً عظمياً، لرجال تتراوح أعمارهم ما بين الثلاثين والخمسين عاماً.

وبالقرب من الجزء الشمالي للسور، هناك بقايا مبان سكنية، ومساحات بيوت، ومواقد، وأقنية تصريف. ويلاحظ من دراسة هذه المباني وجود ثلاث مراحل من البناء، مرحلة أقدم، تعود إلى القرنين الخامس والسادس الميلاديين، ومرحلة لاحقة، تعود إلى القرن السابع، ومرحلة أحدث تعود إلى القرن التاسع، وكانت هذه المباني محل سكن الرهبان، والعاملين في الدير، والحجاج. وإلى الجنوب من الدير هناك بقايا برج على منحدر سفح التل .وعلى مسافة (600) متر غرب الدير، هناك خربة تعرف باسم خربة الكرسي، وهي تل قديم، كشف التنقيب فيه، عن بقايا عمران من العهد الروماني، وبقايا خان، من العهد العربي الإسلامي، كان قائماً على رأس التل، وقد عثر في هذا الموقع على فخاريات، تعود إلى العهود الرومانية والبيزنطية والعربية الإسلامية .

وفي مقابل قرية الكرسي داخل بحيرة طبرية ، تم الكشف عن مرسى قديم، استخدمه صائدو الأسماك، كما كشف عن حوض لتخزين الأسماك، ويشار إلى أن رأس الكرسي، يعد من أغنى أجزاء بحيرة طبريا بسمك السردين.

وتشير البقايا واللقيات إلى أن الموقع لم يكن مجرد مكان عبادة، بل كان مركزاً دينياً، وحلقة وصل ما بين فلسطين والجولان، وبين العالمين المسيحي والإسلامي، ومركزاً اقتصادياً، يعتمد بشكل أساسي على السياحة، والثروة السمكية، وتؤكد هذه البقايا واللقيات الدور الحضاري، الذي لعبه هذا الموقع في تاريخ المنطقة وموروثها الثقافي .

الجولان لنا

وبعد هذا العرض لأهمية الجولان العربي السوري تاريخياً وآثارياً حيث عاش في ربوعه السيد المسيح وأكل من خيراته ؛ وشرب من مائه العذب ؛ وتنفس من هوائه العليل ؛ يؤكد الأباة المناضلون في الجولان السوري المحتل ؛ بقرى مجدل شمس ومسعدة والغجر وعين قنية وبقعاثا رفضهم للاحتلال الاسرائيلي ، وما صدر عنه من قرارات احتلالية زائلة ؛ وإجراءات عدوانية باطلة .

ويعلنون دوماً الانتماء الراسخ الأصيل لوطنهم الأم سورية ؛ والاعتزاز بهويتهم العربية السورية ؛ رمز كرامتهم وشرفهم وعزهم .

ويجدّد أباء الجولان الولاء المطلق لقائد الوطن السيد الرئيس بشار الأسد ؛ وهم واثقون من زوال الاحتلال ؛ وعودة الجولان لوطنه وأهله وشعبه .