الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

تأملات

سلوى عباس

منذ أيام دعتني صديقتي إلى نشاط ثقافي ترفيهي للأطفال في أحد مراكز الأنشطة الأهلية، وكم فاجأني المشهد، حيث وجدت خلية من الأطفال يملؤون قاعة المركز، كفراشات الندى جاؤوا يتأبطون رغباتهم وشغفهم، أطفال يثلجون الروح من إشراقة الفرح التي قرأتها في أعينهم وهم يحملون ألوانهم وفراشيهم وأدواتهم بكل ثقة، يعبّرون عن مكنوناتهم بعبارات ورسوم تشكيلية تجسّد أفكارهم وهواجسهم التي يعيشونها.

للوهلة الأولى بدا الأطفال أمام بياض لوحاتهم كطيور غادرت أعشاشها يكتشفون أمكنتهم وملكوتهم الصغير، ترتعش قلوبهم كثيراً، لكنهم مغمورون بالفرح، كلمات قليلة خطّوها على قماش من روح وحنين لامس أصابعهم فانبجس من بينها غدير فرح غمرهم حتى الغرق، لاشيء كان بمقدوره أن يوقف اشتعالهم، ولاشيء يسكن أرواحهم عن التواثب بين اللهفة والانتعاش ورغبتهم في التماهي بين زرقة الحروف ولون السماء، تحولت حروفهم على قماش اللوحة إلى ضياء من أقواس قزح، أطفال ينسجون أحلامهم حول لحظة تشرق فيها اللوحة ملونة برسوماتهم وكتاباتهم، فكانت موسيقى لأجنحتهم، وأناشيد راقصة وهم يتدافعون تجاه مدرّستهم لترى نتاجهم وتثني عليهم، وقد حدثتنا مطولاً عن سعادتها في التعامل مع أطفال تفاجأت بمواهبهم، حيث هذه الأنشطة مستمرة ولاتقتصر على فترة محددة من السنة.

اليوم، ومع انتهاء الامتحانات المدرسية، دخل الأهالي في حيرة من أمرهم أمام سؤال يلحّ عليهم: ماذا سيفعل أطفالنا في هذه العطلة الصيفية الطويلة؟ هذا السؤال يتردد في أذهان الكثير من الأمهات والآباء، ويتوقفون عنده كثيراً خاصة وأن الخيارات محدودة ضمن حدود المساحة الضيقة المفروضة عليهم اجتماعياً وحتى اقتصادياً مع موجة الغلاء التي عصفت بأهم الأولويات فكيف بالحاجات التي نراها بحكم الظروف حالة من الترفيه، لكن بعد المشهد الذي رأيته في مركز الأنشطة الأهلي الذي يستمر نشاطه صيفاً شتاء رغم كل الظروف، أتساءل حول الأنشطة الصيفية التي اعتادت مراكزنا الثقافية إقامتها والتي أثبتت فاعليتها وجدواها، أين هي؟ خاصة وأن الكثير من الأطفال يمتلكون مواهب متعددة سواء في الرسم أم التصوير أو الرياضة والموسيقا ومواهب أخرى تغنيها هذه المراكز بإتاحة الفرصة لهم لممارستها، فالعطلة الصيفية بوقتها الطويل نسبياً تتيح فرصة ذهبية لتطوير هذه المواهب، وهناك الكثير من النوادي والمؤسسات التي تستقبل الأطفال في العطلة الصيفية. وهي دعوة للأهالي جميعاً للتوجه إلى إشراك أطفالهم في هذه الأنشطة التي تساهم ليس في شغل أوقات فراغهم فحسب، بل وتنمي شخصيتهم وتزيد من ثقتهم بأنفسهم، وبالتالي يتعرفون على أصدقاء جدد يعززون تواصلهم الاجتماعي مع أقرانهم.

****

مفارقات كثيرة أعيشها يومياً في بلدتي التي أصبح البحر متنفساً لأهلها، إذ يجمعني مشواري الصباحي اليومي بأشخاص تتنوع ملامحهم وتختلف، وبحكم لقائنا اليومي أصبح بيننا حالة من الاعتيادية فأقرأ مكنوناتهم وهواجسهم التي ترتسم على وجوههم حسب اختلاف منبتهم الاجتماعي والنفسي، فعلى بعد مسافة قصيرة من الكورنيش تطل مجموعة من السيدات أتين يحملن هموم بيوتهن ومتاعبهن ليرمينها في مياه هذا الأزرق الفسيح القابض على أسرار كثيرة، يتبادلن الأحاديث والشجون بين بعضهن لعلهن يتخففن من أثقالهن ويعدن إلى بيوتهن بروح أكثر رحابة يستطعن من خلالها إكمال باقي يومهن مع أسرهن التي تحتاج منهن الاهتمام والمحبة التي اعتادوا عليها.

على الجهة المقابلة للكورنيش تتوضع أكشاك استثمرها أصحابها ببعض الطاولات والكراسي يرتادها أشخاص متقاعدون عن العمل لا يربط بينهم أي رابط سوى هذه الجلسة التي رتبها صاحب الكشك بمعرفته، فيفرّغون شحنات قلقهم وتعبهم ببعض الأحاديث المغلفة بالسخرية من الحياة وهذا العمر الذي يقضونه باللهاث وراء لقمة العيش، لكن المفارقة العجيبة أنه على بعد أمتار من هؤلاء الجلساء تختلف ملامح المدينة والأشخاص بشكل كلي، حيث تتوضع النوادي الرياضية والمنشآت السياحية والكافيتريات التي لا تحمل أي خصوصية من خصوصيات هذا الأزرق الجميل، وحتى روادها الذين يأتون لممارسة رياضتهم الصباحية فيها لا يشبهون رواد البحر الآخرين الغارقين بهمومهم وأوجاعهم بأي شيء، ولا يهمهم أن يعرفوهم.