هل تؤدّي أزمة الغذاء العالمي إلى انتفاضة إفريقية ضد الغرب؟!
البعث الأسبوعية – أحمد حسن
العالم يتغيّر، حربُ أوكرانيا لم ولن تمرّ دون انعكاسات سياسية واقتصادية تأخذ أشكالاً مختلفة ومتعدّدة، فمع اهتزاز الجغرافيا الأوروبية كان من الطبيعي أن تهتز الأسواق، والأسعار، العالمية في مجالات النفط والنقل والغذاء والصناعة والتجارة، وكان من الطبيعي أيضاً أن تهتز العلاقات “الجيوسياسية” الدولية على امتداد العالم بأسره.
إفريقيا ليست استثناءً من ذلك، فهناك، وعلى المستوى الاستراتيجي والنفسي، ما يتغيّر ولو ببطء شديد. الرسائل الواردة منها مؤخراً وعلى أكثر من صعيد، وإن كانت غير مكتملة بعد، لافتةٌ للغاية. بعض الدول أعلنت رفضها استمرار الغطرسة الغربية التاريخية لفرنسا، الممثل الأكبر للاستعمار التقليدي، مالي مثلاً، والجزائر بدورها تنقّي ذاكرتها منها، ودول أخرى تتململ، وبالطبع هناك دول ما زالت أنظمتها “سعيدة” بعلاقة التبعية، لكن ربما كان أوضح هذه الرسائل، وأخطرها، وقوف إفريقيا على الحياد في معركة الغرب مع روسيا -وهذا في حقيقته حياد إيجابي يرجّح كفة موسكو ولو معنوياً- وأكثر من ذلك، إفريقيا الرسمية تتجه نحو روسيا لا الغرب باحثةً عن أمنها الغذائي.
هنا قد يبدو هذا التوجّه، للبعض، قراراً عادياً لمواجهة أزمة محدّدة، لكن الاستقطاب الدولي الراهن، والهائل، وحقيقة الحصار الغربي الكبير لروسيا وتهديد الجميع بعدم التعامل معها، يجعل منه أقل من “ثورة” وأكبر من “انتفاضة” في وجه هذا الغرب، وذلك أمر كانت تندلع دونه، في أوقات قريبة للغاية، حروبٌ وتُهندس انقلابات جيش أو قصر، وثورات “شعبية”، وما إلى ذلك.. وبعض ما سبق سيحدث لاحقاً.
التحذير الأمريكي
وبالطبع لم يتأخر “الامتعاض” الأمريكي عن الظهور، ففي منتصف شهر أيار الماضي حذّرت وزارة الخارجية الأميركية 14 دولة أغلبيتها في إفريقيا، من الاستفادة من سفن الشحن الروسية التي تغادر الموانئ القريبة من أوكرانيا بحجة أنها تحمل “حبوباً أوكرانية منهوبة”، وبالطبع لن يسأل أحد هنا عن قانونية الاستفادة من ثروات القارة السمراء، وغيرها، المنهوبة بأيدي واشنطن ذاتها.
والحال فإن هذا التحذير وضع “القارة” وبلدانها على مفترق طرق، كما تقول نيويورك تايمز، “فإذا ما استغلوا هذه الحبوب التي نتجت من جرائم حرب محتملة، فسوف يثيرون استياء حليف غربي قوي، وإذا رفضوا تلقي هذه الحبوب، فسوف تتفاقم أزمة الغذاء لديهم”، ويتعرّضون، بالتالي، لخطر المجاعة الفعلي، دون أن يقدّم لهم الغرب بديلاً مناسباً.
عودة إلى الأسطورة المؤسسة
في الوعي السائد غربياً، أو عالمياً وفق معطيات هذا العصر، تسود قصة “توراتية” تقول: إن “نوح” النبي منح قارة آسيا لابنه “سام”، وأوروبا لـ”يافث”، وإفريقيا لـ”حام” وابنه “كنعان” الذي لعنه الرب -لأسباب ليس هذا مجال ذكرها- وجعله عبداً لأخويه، هو وأحفاده وذريته كاملة إلى اليوم المعلوم.
الاستعباد بنسخته الآسيوية انحسر عن إفريقيا منذ زمن طويل. ما بقي منه آثار وأطلال بعضها في الثقافة والوعي أكثر مما هو في الواقع العملي، مع ملاحظة “عودة” معيّنة لبعض صوره ولكن على شكل شراكة تنموية وتعاون اقتصادي وتشبيك بالـ”ترغيب” لا بالفرض والإرغام.
النسخة الغربية والمستمرة منذ قرون أي منذ عصر النهضة الأوروبي الذي كان عصر “نكبة” ممتدة لهذه القارة التعيسة، هي السائدة الآن وبالطبع ليست الأسطورة السابقة هي سببها الحقيقي، وإن كانت معبّرة ومساعدة في عملية كي الوعي المعروفة، بل حقيقة أن الغرب وجد في القارة “منجمه” البشري والمادي للثروات الباطنية والموارد الأولية التي لا تنضب.
بيد أن الأفارقة ضاقوا اليوم ذرعاً بذلك وأعلنوا “نية” الخروج، على الأسباب الأسطورية والحقيقية معاً، أي، كما أسلفنا، ما هو أقل من ثورة وأقرب إلى “انتفاضة”، لكنه، بغض النظر عن الخلاف على التوصيف، قد يكون دليلاً على ما هو قادم.
الغربيون يعيدون ذلك إلى التأثير الكبير لتمدّد الصين وروسيا في أرجاء القارة السمراء خلال المرحلة الماضية، وذلك أمر صحيح، لكن أين كانوا حين حدث ذلك؟، ولِمَ لَم يواجهوا، كما اعتادوا دائماً، هذا التغلغل “الشرقي” في قارة الموارد الأولية الكبرى؟!.
فتّش عن الحبوب!
المفارقة أن الدافع الإفريقي لهذه الانتفاضة غير المعلنة كان الحبوب، أي الغذاء، بينما يُفترض أنهم “سلة” غذاء العالم، لكنهم، كما يعرف الجميع، “سلة” الكلّ إلا أبناء القارة ذاتها، والاستهتار الغربي بهم وبأمنهم الغذائي ومستقبل حياتهم قد وصل إلى الذروة مع فرضه، أي الغرب، عقوبات على روسيا أثرت بدورها في العالم بأجمعه، بيد أن ما ساهم في ظهور “الاستنكار” الإفريقي الممتزج بالمرارة، لهذه العقوبات، هو ما بدا أنه موجّه، فقط، ضد “لقمة عيشهم” بالمحصلة النهائية، بينما هو يراعي أصحاب الدم الأزرق إلى أبعد مدى، وإلاّ فما معنى “حرمان بنوك روسية متخصّصة في تصدير المواد الأولية والمنتجات الزراعية مثل الحبوب من نظام سويفت، واستثناء البنوك العاملة في مجال الغاز والبترول لكي تصدّر إلى أوروبا؟!”، ولماذا العقوبات على السفن كوسيلة للتصدير ومنها الحبوب إلى إفريقيا بينما “لم تُغلق أنابيب الغاز والبترول بحكم كونها وسيلة للتصدير نظراً للحاجة الأوروبية”!.
وتلك أسئلة عكسها الإعلام الإفريقي بمرارة ما بعدها مرارة، كما تجاوبت معها بعض الأصوات الغربية التي اعترفت أن “المجتمع الدولي” المزعوم وضع مصالح إفريقيا في آخر سلّم اهتماماته، لذلك، وعلى مبدأ “ما حكّ جلدك مثلُ ظفرك” كان التوجّه الإفريقي الرسمي نحو روسيا لتأمين الحبوب، وبالتالي الحياة.
مستقبل الخطوة الإفريقية؟!
ماكي سال، الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي ورئيس السنغال، توجّه، وبرفقته رئيس مفوّضية الاتحاد الإفريقي التشادي، موسى فكي محمد، باسم القارة إلى موسكو وخرج “مطمئناً” بعد لقائه نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، الذي جرى خلاله نقاش المخاوف من أزمة غذائية بسبب الحرب في أوكرانيا، ما يعني أن هناك حلاً روسياً ما للموضوع، وهذا ما تطمح إليه القارة بأكملها قبل وقوع المحظور.
لكن ورغم أن السياسة اقتصاد مكثّف، إلا أن ما سبق لا يعني بالطبع قيام حلف روسي إفريقي جديد، بل “تحرّر” إفريقي -إذا اكتمل طبعاً- من بعض عبودية الغرب، لكنه يعني، وبكلمة أخرى، يشي بعالم يعيد صياغة علاقاته البينية من جديد، في طريقه نحو تعدّد القطبية والتحالفات الدولية الرجراجة “حسب القطعة” وعلى كل موضوع بعينه.
بالمحصلة
إفريقيا قارة ضخمة، سواء بمواردها البشرية أم بثرواتها الباطنية الهائلة، وإذا ما ملكت زمام أمرها فسيتغيّر العالم بالتأكيد، بيد أن ذلك دونه عوائق ذاتية وموضوعية، يبدو من الصعب تجاوزها قريباً، وإذا كان اصطفافها، المستحيل حتى الآن، إلى جانب أمر آخر سيغيّر الكثير، فإن “حيادها” الحالي بحدّ ذاته هو رسالة معبّرة عن القادم.. حكماً.