مجلة البعث الأسبوعية

الحلقة المفقودة في رفع الحصار عن سورية واليمن وغزة

إبراهيم علوش  

يدرك السوريون أن حصارهم لم يشهد له التاريخ العربي المعاصر مثيلاً، ولكنهم يدركون أيضاً أن الحصار في اليمن قد لا يقل وطأةً على المواطن اليمني؛ كما أن غزة عبارة عن سجن كبير لأكثر من مليوني مواطن فلسطيني؛ ويعاني مواطنو الضفة الغربية من إجراءات حصار صهيونية تخنق حياتهم المعيشية يومياً؛ وثمة حصار اقتصادي ومالي صعب على لبنان يتسبب بمئات آلاف حالات الجوع والفقر المدقع أيضاً؛ ولعل الحصار الأقسى في التاريخ العربي المعاصر هو الحصار الخانق على العراق الذي امتد ثلاثة عشر عاماً، ما بين عامي 1990 و2003، ناهيك عما تلاه من غزو وقتل ودمار؛ ولا ننسى الحظر الجوي على ليبيا ما بين عامي 1992 و2003، والذي عانى المواطن والاقتصاد الليبيين الأمرين من جرائه.

ليس هذا تقليلاً من شأن الحصار على سورية، أو من قسوة أثره على المواطن والاقتصاد السوريين، فهو حصارٌ رهيب بكل المقاييس، وهو يقع في سلم الجرائم ضد الإنسانية ما بين جريمة الحرب والإبادة الجماعية لبلدٍ كامل، إذا أردنا استخدام تعابير جماعة “القانون الدولي”؛ أما المسؤول عن تلك الجريمة فهو ذاته من يسطو على نفط سورية وغازها وقمحها ومواردها ليعمق أثر الحصار ويلغ في الجرح. فحيثما توجد جريمة يوجد مجرم. إنما في حالة الحصارات قلما تجد بين جماعة “القانون الدولي” من يتحدث عما يرتكبه ذلك المجرم علناً ويومياً، على مدى سنوات، متلبساً بالدماء وأداة الجريمة بيده. ولا يتناقض مثل هذا الكلام، بالمناسبة، مع الحديث عن وجود ظواهر فساد وسوء إدارة، وإلى ما هنالك، لا بد من معالجتها، من قبل الحصار ومن بعده. إنما يمكن القول إن الحصار يوسع ظاهرة الفساد ويعمقها لأن أحد أهدافه وآثاره إحداث انهيارٍ اجتماعي وأخلاقي من أجل إحداث انهيار سياسي بالمحصلة.

ومن المستغرب أن جماعة “حقوق الإنسان” و”الديموقراطية”، وأصحاب النزعات الإنسانونية عموماً، لا يتبنون مطلب رفع الحصار عن عشرات ملايين المواطنين العرب المحاصرين في سورية واليمن وفلسطين اليوم، ولا يشيرون بسبابتهم إلى من يفرض حالات الحصار القاتل، الذي ينزف منه عامة الناس والاقتصاد والبلد عموماً، أكثر من أي جهة يزعم فارضو الحصارات أنهم يستهدفونها. وإذا كان الهدف هو تجويع الناس وقتلهم فقراً وبرداً وحراً ومرضاً وعطشاً لجعلهم ينساقون بقوة الحصار خلف خيارات الغرب السياسية وحلفائه، فإن ذلك هو الإرهاب بعينه، إذا كنا نحتاج إلى نموذج قياسي دولي للإرهاب، والحصار بات الإرهاب الأكبر في زماننا، والانتهاك الأكبر لحقوق المواطن.

لكنْ من المستغرب أيضاً أن كل مجموعة محاصرة من المواطنين العرب باتت تجرده عن سياقه التاريخي والجغرافي، وأنها لا تنظر إلى اتصاله مثلاً بحصاري العراق وليبيا من قبلُ، ولا إلى الحصارات الأخرى التي يتعرض لها مواطنون عرب آخرون بصورةٍ متزامنة. وهذا يعني أننا نعيش العوارض، بكل آلامها، ولا ندرك علتها، وبالتالي، لا نضع تصوراً واضحاً لطريقة علاجها.

لنبدأ، أولاً، من منطلق أن فرض حصار غربي وحليف للغرب على أي بلد عربي يمس الكرامة القومية لكل مواطن عربي. وليس الموضوع هنا استرسالاً في المشاعر النبيلة المنفصلة عن الواقع المظلم، إنما هو إدراكٌ براغماتيٌ أيضاً بأننا متى سكتنا عن فرض حصار على مواطن عربي آخر اليوم، فإن من المرجح أن يفرض علينا غداً. والمواطن العربي الذي يصمت عن فرض حصارٍ علينا اليوم، لن يجد من يدافع عنه عندما يفرض عليه غداً أو بعد غد، ولسوف يفرض عليه حصارٌ بالضرورة عندما يجد نفسه في طريقٍ مناهض للغرب ومخططاته، إن قرر الأخير تفكيك بلده مثلاً أو نهب ثرواته.. إلخ.

لكي لا يبقى الحديث في العموم، فلنعطِ مثالاً عملياً. في 19 نيسان عام 1960، إبان الوحدة المصرية – السورية، رست سفينة “كليوبترا” التي ترفع علم الجمهورية العربية المتحدة، أي العلم السوري الحالي، في ميناء مدينة نيويورك الأمريكية. وتحت تأثير اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة منع اتحاد العمال في ميناء نيويورك خدمتها أو تفريغ حمولتها من القطن المصري أو تحميلها بالقمح الأمريكي كما كان يفترض. وجاء ذلك رداً عن منع مصر عبد الناصر السفنَ “الإسرائيلية” من العبور في قناة السويس.

قيل أن اتحاد العمال العرب بادر، كرد على حصار “كليوبترا” في نيويورك، إلى الدعوة لمنع التعامل مع أي سفينة أمريكية في كل الموانئ العربية. وقيل أن القائد القومي جمال عبد الناصر ذهب إلى مبنى الإذاعة وتحدث بضع دقائق عبر “صوت العرب”، شارحاً المشكلة وداعياً العمال العرب إلى مقاطعة السفن الأمريكية في الموانئ العربية.

لا يهم أي الروايتين أصح، ولمعاصري تلك المرحلة أن ينوّرونا. ما يهم هو أن كافة السفن الأمريكية قوطعت في الموانئ العربية بشكل شبه كامل، واشترك في حصارها عمال الموانئ العرب في أقطار الخليج العربي والبحر المتوسط، حتى ميناء العقبة في الأردن. انتهى الأمر بهذه البساطة. رفع الأمريكانُ الحصارَ صاغرين عن “كليوبترا”، التي كانت ترفع العلم السوري الحالي. بالمقابل، رفع العمال العرب الحصار عن السفن الأمريكية في الموانئ العربية. وثمة فيديوهان يظهران ذلك على صفحة “ناصر 56” في منشور بعنوان “نداء عبد الناصر الذي أرعب أمريكا”. كذلك، يمكن الاستزادة عن هذا الموضوع في مقالة الأستاذ سعيد الشحات في مجلة “اليوم السابع”، أو في مقالة الأستاذ خميس القطيطي في “رأي اليوم”.

الفرق بين الأمس واليوم واضحٌ جداً: الحس القومي. والفرق الآخر بين الأمس واليوم واضحٌ أيضاً: وجود حركة شعبية عربية منظمة عبّرت عن وجودها من خلال اتحاد العمال العرب ذات ربيعٍ حقيقيٍ عام 1960.

ومن البديهي أن المتضرر من وجود مثل ذلك الحس القومي والعمل القومي العابر لحدود التجزئة القُطرية درس الظاهرة جيداً، وأغرقها بما ينقضها، مثل الحس الطائفي أو القُطري أو العرقي أو الجهوي أو.. أو حتى الشخصي المتفلت من أي انتماء وطني أو قومي.

المعادلة واضحة إذاً: لو تمكنا من استعادة الحس القومي والعمل القومي العابر للأقطار، فإن محاصرة أي قطر عربي تصبح قضية رأي عام عربي. وعندما تصبح كذلك، فإن الشعب العربي يمكن أن ينتهك الحصار مباشرةً بالملايين، أو أن يضغط على من يشارك فيه في الشارع، أو حيثما يرى مناسباً بالملايين. وهذا رداً على أغنية “وين الملايين؟ الشعب العربي وين؟”. ومتى غاب الحس القومي، تغيب الملايين. ومتى حضر، تحضر.

وعليه، نقول إن استعادة الحس القومي والعمل القومي العابر للأقطار ليس من الكماليات التي يمكن أن نلتفت إليها بعد قضاء الضروريات القُطرية، بل هما في صلب الضروريات، إذ لا أمن وطنياً ولا تنمية مستقلة في كل قُطر عربي بمفرده. وتلك اليوم هي الحلقة المفقودة في رفع الحصار عن سورية واليمن وغزة، وأي قطر عربي يتعرض للحصار لاحقاً.

العروبة أولاً.