مجلة البعث الأسبوعية

الموسيقا.. ندى الروح

البعث الأسبوعية- ســلوى عباس

في أيام الدراسة الأولى كانت حصة الموسيقا بالنسبة للطلاب فرصة للهو والاستراحة من عبء الدروس، دون أي اهتمام من إدارة المدرسة ولا حتى من المشرفين على المناهج الدراسية بهذه المادة الهامة، والتي كانت مهملة أيضا من قبل المدرسين أنفسهم، والذين لم يدرسوا هذا الاختصاص عن رغبة وهواية، وإنما اختيارهم له كان للحصول على شهادة تؤهلهم لفرصة عمل يحصلون من خلالها على دخل مادي يساعدهم في تدبير شؤونهم الحياتية، رغم أنه كان يوجد أشخاص تشكل الموسيقا هوساً بالنسبة لهم، لكنهم ظلوا أفراداً مغردين بعيداً عن سربهم الذي كان ينظر إليهم كأشخاص أصابهم مسٌ من الجنون.

ومع تطور الزمن واختلاف معطيات العصر، بدأت الموسيقا تأخذ موقعها اللائق بين الفنون، وتم إحداث المعهد العالي للموسيقا في دمشق الذي يخرّج  فنانين تشكل الموسيقا هاجساً يرأب صدع أرواحهم، وغدت فناً مستقلاً بذاته، فناً يتعاطاه الناس بالفطرة بحضورهم للأمسيات الموسيقية التي تقام في دار الأوبرا، أو في المعاهد الفنية وغيرها، كما أصبح هناك معاهد ترعى المواهب الموسيقية وتنميها، ليكون خريجوها رافدين لخريجي المعهد العالي للموسيقا، وليسمو الجميع بالحياة للمستوى الذي يليق.

ولا يمكننا الحديث عن الموسيقى دون أن نستذكر مايسترو الفرقة السيمفونية الوطنية السورية المبدع الراحل صلحي الوادي الذي يمثل تاريخاً إبداعياً في الموسيقى العربية، أودعه أمانة لدى طلابه ومحبي الموسيقى للحفاظ عليه ومتابعة المشوار، فقد خرّج الوادي الكثير من الموسيقيين الموهوبين الذين حققوا بصمتهم الفنية عربياً وعالمياً، وهاهم ينطلقون في فضاء الفن معتمرين وصايا أستاذهم الذي سفح عمره على هضاب التعب ليرسم للموسيقى مستقبلها الذي يعيشه محبوها الآن، ورغم زحمة الحياة، وحالة الألم والأسى التي تلفّ حياتنا، إلا أن هؤلاء الشباب مازالوا يفتحون لنا في الحياة نوافذ الفرح، حيث أخذ كلّ منهم يرسم حلمه فتشكلت أوركسترا متعددة، بأسماء تنبض بروح الأصالة، ومع كل أمسية، وكل فعالية تقام في دار الأوبرا تحضر روح المبدع صلحي الوادي بإبداعات طلابه الذين يؤكدون في كل مرة على وفائهم لأستاذهم ولأحلامهم التي ينسجونها لتكون هذه الإبداعات جواز سفر سوري يباهون به أينما ذهبوا، وستبقى روح مبدعهم وأستاذهم الراحل صلحي الوادي تحلّق فوق مبنى المعهد العالي للموسيقى، ودار الأوبرا، المكان الذي أسّسه برهافة الروح ورقة الاحساس ليبقى صدى ألحان الفرقة السيمفونية الوطنية يتردّد في أرجاء المكان، ولتزهر أحلامه في روح هؤلاء الشباب الذين تتلمذوا على يديه وقد استطاعت الأوركسترا عبر الأمسيات الموسيقية التي أحيتها منذ تأسيسها وحتى الآن أن تؤسّس لحضور موسيقي ينشد نقاء الروح، وألغت فكرة أن الموسيقى ليست حالة من الترف الحياتي.

إذاً.. أصبح للموسيقا عيد يتنادى إليه الناس في الحادي والعشرين من حزيران من كل عام، وتساهم في إحيائه مؤسسات وهيئات تسعى من خلال برامجها إلى الارتقاء بالمجتمع إلى حالة من الحضارة والتطور.. وقبل الحرب الظالمة على سورية كانت الاحتفالات التي تقام بمناسبة هذا اليوم تتوزع في أكثر من مكان في دمشق،وكانت تقارب الكثير من التقاليد التي يعتمدها المهرجان الأوروبي للموسيقا ببدئه فعالياته بالشهر السادس، وتأكيده على التنوع في الأساليب المتبعة في كل أنواع الموسيقا، والدعوة للعفوية والتلقائية عبر المشاركات المفتوحة في الهواء الطلق، مما أعطى للموسيقيين من هواة ومحترفين فرصة التعبير عن مقدراتهم ومواهبهم التي جعلت المكان ينبض بالأصالة والمعاصرة، حيث يشيع الدفء والسحر وتتألق الروح في فضاء الياسمين الدمشقي الذي ينتشر عبقه في أرجاء المكان، فيتماهى صوت الآلات الغربية مع لحن الآلات الشرقية أنشودة محبة يجتمع العالم على أنغامها، ليعيش عشاق الموسيقى مع كل أمسية ليلة مزخرفة بنشوة الفرح المعجون بعبق التاريخ، والتي كانوا خلالها يتبادلون متعة الإحساس الذي يلامس شغاف القلوب ويمحو عنها ما تراكم من غبار التعب والأسى، وأمنياتنا أن تعود الاحتفالات بهذا اليوم لأن الموسيقا ندى للروح وشفاء لها.