مجلة البعث الأسبوعية

بعدما هدّدت المكتتبين المتخلفين بالفصل.. لمن تبني الحكومة الضواحي السكنية؟ مشاريع الإدخار والشباب مصيرها النهائي بين أيدي المقتدرين مالياً والمكاتب العقارية!!

“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود

أعلنت المؤسسة العامة للإسكان عن تخصيص 3880 مسكناً للمكتتبين في جميع المحافظات لكنها لم تكشف عن مصير هذه المساكن. والحقيقة فإن إنجاز مشاريع سكن للمدخرين وللشباب مهم جداً، ولكن الأكثر أهمية أن تؤول هذه المساكن لذوي الدخل المحدود، لا أن يكون مصيرها النهائي للمقتدرين مالياً وللمكاتب العقارية، فقبل أسابيع قليلة من إعلان التخصيص، هددت المؤسسة المتخلفين عن تسديد الأقساط بالفصل، وأكدت أن من يريد التخصص عليه أن يسدد 30% من تكلفة المسكن، أي عدة ملايين ليست في متناول الغالبية العظمى من المكتتبين والمدخرين. والملفت ان المؤسسة اهتمت طوال العقود الماضية بفصل المتخلفين بدلاً من ابتكار آليات تتيح لهم تملك مسكن متواضع يتناسب مع دخلهم. وليس القطاع السكني التعاوني أفضل حالاً، فمشاريعه تؤول أيضاً إلى المقتدرين وللمكاتب العقارية بفعل رفض وزارة الإسكان دعمه بمقاسم جاهزة للبناء تنفذها شركاته الإنشائية.

 

الكلام الجميل

في دمشق، بدأت عمليات التطوير العقاري لمناطق العشوائيات، وفي حلب وعد المسؤولون بأنها ستكون خالية من العشوائيات بعد 15 سنة، لكن المشاريع التي ستدخل حيز التنفيذ العام الحالي ستبقى عصية على العاملين بأجر مالم تغير الحكومة – من خلال أداتها التنفيذية وزارة الأشغال والإسكان – أساليب عملها التقليدي التي تحكمها منذ عدة عقود. ومن المهم أن تخطط الحكومة لبناء مليون وحدة سكنية خلال القادم من السنوات، لكن الأكثر أهمية أن تتيح لملايين العاملين بأجر فرصة التخصص بشقة سكنية، وإلا ما جدوى بناء المساكن للمقتدرين مالياً بأسعار أقل بكثير من السوق ما داموا قادرين على شراء “الفلل”.. لا المساكن فقط؟!

ما من أحد حتى الآن عالج المشكلة المزمنة، ومع أن لدينا بعض التجارب لهزيمة المستحيل، فإن الحكومة والقطاع الخاص معاً غير مستعدين حتى الآن لتبني واحدة من التجارب التي تتيح لجميع السوريين فرصة التخصص بمسكن من مشاريع الحكومة القادمة..

 

26 ضاحية سكنية

كان الشغل الشاغل لوزارة الأشغال العامة والإسكان في العام الماضي تجهيز أضابير 26 منطقة من مناطق التطوير العقاري لتنفيذها كضواحٍ سكنية في جميع المحافظات، وبناء 30 ألف وحدة سكنية؛ والملفت أن مسؤولي الوزارة يكررون عند التحدث عن مشاريعهم الطموحة عبارة “تنفيذ المشاريع السكنية لذوي الدخل المحدود”، دون أي تفاصيل حول كيف يمكن لعامل بأجر، بالكاد يستطيع أن يؤمن احتياجاته اليومية، أن يسدد ثمن شقة لا يقل سعرها في حده الأدنى عن 15 مليون ليرة سورية، حتى لو حصل على أي قرض مصرفي؟

تعرف الوزارة جيداً ان مصير السكن الشبابي هو المكاتب العقارية، أي هي تبني للمتاجرين بالسكن، وليس للمحتاجين إليه من ذوي الدخل المحدود!!

 

المكاتب العقارية مستعدة

تخطط وزارة الاشغال العامة والإسكان لبناء 100 وحدة سكنية في جميع المحافظات، تم فتح باب الاكتتاب على نحو 12 ألف وحدة منها خلال العام 2019. وتتنوع تسميات هذه الوحدات ما بين “السكن الاجتماعي”، و”السكن الشبابي”، و”الإدخار السكني”.. إلخ. والسؤال: من هم المكتتبون على الشقق الاجتماعية والشبابية والإدخارية؟

إذا كانت المؤسسة ستتقاضى ثمن الشقة 15 مليون ليرة دون أي فوائد، فهذا يعني أن على العامل بأجر أن لا يقل دخله الشهري عن 50 ألف ليرة شهرياً، وأن يسدده كاملاً للمؤسسة، أي بإمكانه فعلاً الحصول على المسكن إذا عاش عالة على أهله مدة 25 عاماً. وبما أن الوزارة غير مهتمة بدخل المكتتبين، ولا تتردد بفصل المتخلفين عن دفع الأقساط لمدة 6 أشهر، متصلة أو منفصلة، فإن المكتتبين يبيعون دورهم أو تخصصهم لمكاتب عقارية، أو للمقتدرين مالياً لقاء مبلغ قد يساعدهم على شراء منزل متواضع في مناطق العشوائيات. وهذا يعني أن الوزارة لا تبني للشباب ولا للعاملين بأجر، والسبب أنها مصرة على آليات تقليدية لقبض كلفة مساكنها.. آليات كانت تصلح لعقد الثمانينيات، لا للعقدين الأخيرين على الأقل.

 

توازن العرض والطلب.. لمن؟

وتؤكد الحكومة في مناسبات عديدة أن قطاع السكن من ضمن قائمة أولويات عملها على الرغم من تراجع إيرادات الخزينة العامة؛ كما تؤكد الوزارة من جهتها أنها تعمل وفق استراتيجية تضمن توازن العرض والطلب في قطاع الإسكان، والسؤال: لمن تذهب المساكن التي تدعمها الحكومة؟ والأهم: لمصلحة من استراتيجية توازن العرض والطلب؟

لقد كشفت وزارة الإسكان أن “الخطة المعلنة تتضمن تشييد 100 ألف وحدة سكنية في مختلف المحافظات”، دون أن تعلن عن خطة موازية، أو آلية تضمن وصول هذه الشقق لمن يحتاجها. ومن الملفت الحديث عن تكامل عمل كل من مؤسسة الإسكان وهيئة التخطيط الإقليمي وهيئة التطوير العقاري دون أن يتضمن هذا التكامل رؤية تنفيذية لجعل المسكن متاحاً للعاملين بأجر، بدلاً أن يبقى مستحيلاً على ملايين السوريين.

والحديث عن تجمعات عمرانية متكاملة، ووحدات سكن اجتماعي لن يحوّل المستحيل إلى ممكن،

كما أن تكرار عبارة “إن السياسات والخطط والبرامج المناسبة لتأمين المساكن للمواطنين وتأمين المقاسم المعدة للبناء تتم بالتنسيق مع الجهات المختصة”، لا ترجمة لها على أرض الواقع طالما الحكومة تبني للقادر على دفع عشرات الملايين دون أن يرف له جفن! وحتى الحديث عن تطوير مناطق السكن العشوائي المخالف، للحد من انتشاره، لم يتضمن أية رؤية تتيح لسكان المخالفات السكن البديل دون إرهاق مادي للمستفيد، فلا يضطر إلى بيع تخصصه للمكاتب العقارية أو مقتنصي الفرص من المقتدرين مادياً.

لقد رصدت وزارة الأشغال أكثر من 46 مليار لتنفيذ خطة السكن في عام 2020، منها 25 ملياراً للسكن الاجتماعي، و8 مليارات لسكن الإدخار، وهو مبلغ لن يستفيد منه أي مواطن من شريحة “الاجتماعي” أو “الشباب” طالما كلفة السكن فوق طاقة هاتين الشريحتين.

 

قرارات تعزز المستحيل

وعلى عكس ما تصرح به وزارة الإسكان، فإن كل ما يصدر عنها، وكل ما تنفذه، يؤكد بأن جل اهتمامها منصب على القادرين على الدفع!! لقد أعلنت المؤسسة، في العام 2019، أن الحد الأدنى لسعر المسكن الذي تخصصه للمكتتبين هو 15 مليون ليرة، وأن الثمن يسدد على 25 عاماً، لكنها ألزمت المكتتبين على السكن الشبابي بدفع 30% من قيمة المسكن عند التخصيص، أي 4.5 مليون ليرة؛ فأي عامل بأجر يملك مثل هذا المبلغ إلا إذا استدانه من المصرف العقاري، الذي – بدوره – يفرض شروطاً أقلها أن يكون راتب المقترض يتيح له استجرار قرض بخمسة ملايين أو أكثر!! ولنفترض أن المكتتب تمكن من تأمين القرض، فإن تسديد المبلغ المتبقي، وهو 10 ملايين ليرة، يعني قسطاً شهرياً بحدود 34 ألف ليرة، يضاف إلى القسط الشهري للمصرف العقاري الذي لن يقل مع الفائدة المركبة عن 15 ألف ليرة؛ وبهذه الحسبة، فإن على المكتتب أن يقتطع من راتبه ما لا يقل عن 50 ألف ليرة شهرياً لتسديد أقساط ثمن مسكن شبابي، فكم عدد العاملين بأجر الذي بمقدوره تأمين ذلك؟! ونحن هنا نفترض أن المؤسسة تسلم الشقة جاهزة للسكن، في حين يكتشف المكتتب أنها تحتاج إلى إكمالات بالملايين، فيضطر إما لسكنها على حالها أو لبيعها والاستفادة من ثمنها “التجاري” بشراء ما يناسبه في العشوائيات وتسديد ديونه من القرض والأقساط. أما محاولة المصرف العقاري رفع القرض السكني إلى 15 مليون ليرة فتبدو موجهة لصالح المقتدرين، أي الذين يزاولون المهن الحرة (أطباء، محامون، صيادلة، حرف ومهن وصيانة.. إلخ)، وليس لملايين العاملين بأجر، فمن يريد أن يحصل على قرض الـ 15 مليوناً المقترح من العقاري يجب أن يكون دخله الشهري 200 ألف ليرة .. ترى هل يوجد عامل واحد في الدولة يتقاضى مثل هذا الراتب؟

حتى في القطاع الخاص، قلة تحصل على هكذا راتب، وهي أساساً لا تعاني من مشكلة السكن، لا بالتملك ولا باستئجاره!!

 

من المستحيل إلى الممكن

الآن سنجيب على السؤال المحوري: هل تخصيص العاملين بأجر ممكن، أم مستحيل؟

من خلال الآليات التي استعرضناها، فإن إمكانية تخصص العامل بأجر محدود بمسكن تعاوني، أو من مشاريع وزارة الإسكان، أو شركات التطوير العقاري، هو فعلاً من المستحيلات، ولكن يمكن تحويل المستحيل إلى ممكن من خلال تبني خيارات نجح بعضها في عقود سابقة، لكنه لم يتكرر:

– قيام شركة تطوير عقاري بشراكة مع جمعيات سكنية بإقامة ضاحية سكنية أو أكثر، على غرار ضاحية الشام الجديدة المعروفة باسم “مشروع دمر”، وهي تجربة بطلها مهندس واحد بالشراكة مع الجمعيات التعاونية المهنية؛ وكانت ولا تزال تجربة رائدة لم تتكرر مع انها أتاحت من خلال مشاريع استثمارية في الضاحية تسليم الشقق إلى المكتتبين، وتحديداً “التعاونيين”، بأقل من التكلفة بكثير وبأقساط مريحة. وهذا يؤكد بأن القطاع التعاوني ليس مريضاً، بل سيتمتع بصحة جيدة جداً في حال توفرت له الظروف المناسبة.

– قيام مؤسسات حكومية يزيد عدد عمالها عن الألف بمشاريع سكن لإسكانهم ببدل آجار شهري يناسب دخولهم، وتقوم بتمليك الشقة لمن يخدم في المؤسسة 20 عاماً مثلاً، أو يحال للتقاعد. وهذه التجربة ليست جديدة أيضاً، بل جرى تطبيقها في المؤسسة العامة لسد الفرات، كما طبقتها جزئياً مؤسسة الإسكان العسكري في تسعينيات القرن الماضي.

– قيام اتحاد العمال بالتنسيق مع الحكومة ببناء مدن عمالية تتضمن مرافق خدمية واستثمارية، وتخصيصها للعمال بأسعار تناسب الحد الأدنى للأجور، وهذه أيضاً تجربة ليست جديدة ويجب التوسع بها في كل المحافظات، على غرار مدينة عدرا العمالية.

– إلزام شركات التطوير العقاري التي ستنفذ الضواحي السكنية بإنجاز أسواق تجارية ومرافق سياحية لاستثمارها، أو بيعها، بما يتيح تخصيص عدد من المكتتبين على الشقق بأقل من كلفها الفعلية.

– بدلاً من أن يقترض المكتتبون من المصرف العقاري، يمكن لمؤسسة الإسكان بالتنسيق مع وزارة المالية الإقتراض مباشرة من المصارف العامة أو الخاصة لتمويل مشاريعها من جهة، وأن تقوم ببناء مرافق تجارية استثمارية وسياحية وتجارية في مشاريعها الجديدة من جهة أخرى؛ وهذا سيتيح لها تخفيض الكلفة وتقسيط الشقق على مدد زمنية طويلة وبفائدة “مدعومة”.. إلخ.

– إلزام شركات التطوير العقاري يتقديم نسبة 10% من الضواحي التي تبنيها بسعر الكلفة لقاء تسهيلات وإعفاءات لوزارة الأشغال لتقوم هذه الأخيرة بتخصيصها للمكتتبين.

 

بالمختصر المفيد

آليات أو خيارات تخصيص المساكن للعاملين بأجر ليست مستحيلة، بل ممكنة جداً جداً، بعضها مجرب، والآخر يمكن تجريبه.. والمشكلة أن المجرّب استغنت عنه الحكومة، وغير المجرب غير مستعدة لتجربته.. فلماذا؟