أحمد رحال يودع الريشة والألوان
بعد رحلة طويلة برفقة الريشة والألوان، ومحطات صالات العرض الفني يضع القدر نهاية لمشوار واحد من أبرز الفنانين التشكيليين في حمص، إذ باغته الموت أمس مسدلاً الستارة على تجربة فنية ومدرسة متجدّدة ستظل منهلاً لأجيال لاحقة. فقد نعى اتحاد الفنانين التشكيليين والوسط التشكيلي في حمص أحمد رحال الذي كتبت عن معرضه الأخير في صالة صبحي شعيب: لوحات تحمل نبض الحياة بكل تجلياتها ومفرداتها، لوحات يخفق فيها نبض الريف وأخرى نبض المدينة، ويحاور التجريد فيها الواقعي ضمن جدلية الإحساس باللون والمفردات التشكيلية، يحرصُ فيها الرحال على التنقل بين المحاكاة الواقعية وفق قراءات حضارية مبتكرة يستبطن فيها دعوة للتمسّك بالقيم والتراث الإنساني، وبين الرمزية التي يثير فيها مواضيع راهنة عاشها الإنسان السوري في أزمته الأخيرة والمجازر التي ارتكبها الإرهاب من خلال لوحات لطيور جريحة تنزف دماً، وهناك التجريد في لوحات تمور فيها الألوان النارية ضمن مشهدية بصرية تعكس حالة غضب تحاكي الأزمة، كما يشتغل الرحال على الطبيعة الصامتة في لوحات تحقق المتعة البصرية والفكرية من خلال إكساب تلك الأشياء الجامدة روحاً عبر تآلفها ضمن اللوحة وتوزيع الضوء والظل خلالها، والأجمل في المعرض تلك المفردات الواقعية التي يستحضر فيها ذاكرة القرية، ولاسيما المرأة الريفية ومكابداتها اليومية مع الحياة والطبيعة القاسية، حيث طاحونة القمح اليدوية تحاور آنية ملء الماء من العين، وغيرها من الأشغال المجهدة التي كانت المرأة تضطلع فيها، وهناك ذاكرة المدينة بأبنيتها القديمة وحاراتها الضيّقة تعكس جمالية فن العمارة وحميمية التعاطي معها.
يتميّز الرحال بالتجريب التقني المستمر في معظم أعماله، حيث نراه يستخدم الاكليرك إلى جانب الزيتي والمائي والفحم والرصاص وغيرها، مما يعكس حرصه الدائم على التجديد في التقاط المشاهد المعبّرة التي تشعل اللوحة بالحركة والجمال إلى الأفق البعيد وبيوت القرية الطينية والتراثية وإلى السنابل والفلاحين والحقول وأيام الحصاد وإلى نساء الريف الكادحات، وكثيرة هي اللوحات التي تجسّد مواقف إنسانية وجمالية وتراثية في مسيرة الفنان التشكيلي أحمد رحال التي امتدت لأكثر من 50 عاماً.
كان أمل الراحل أن يدخل الفن إلى كل بيت، وأن يتواضع الفنان بالمقابل المادي للوحاته بعيداً عن طرح أسعار خيالية تنفر الجمهور منه.
عن بداياته كان يقول: استهواني الريف والطبيعة كثيراً منذ طفولتي واستمديت منهما ألواني التي أعشقها، كما تعلقت بالتراث كونه دفء الماضي وعراقته ونبعاً لا ينضب للفن بكل أشكاله، فقمت برسم الجاروشة وصانعة اللبن والفلاحة والأزياء الريفية، كما تعلقت بعد انتقالي إلى حمص المدينة بالمباني القديمة والحارات الشعبية، فجاءت لوحاتي معبّرة عنها مثل السوق وأبواب حمص القديمة والدار العربية والنوافذ القديمة المشرعة للضوء وغيرها. وعندما كنت في الصف الرابع الابتدائي طلب إلي أحد المدرّسين دفتر الرسم لعرضه على مديرية التربية في حمص، واستأذنته برسم لوحة بالألوان المائية وهي عنقود عنب بألوان شفافة، حتى شكّك المختصون بأنّه من رسمي، وعلى خلفيتها طلبت مديرية التربية إحضار جميع الأطفال الموهوبين بالرسم إلى التربية، بهدف إجراء فحص لهم، وخلال الفحص في عام 1960 رسمت كلّ ما طلب بقلم الرصاص والألوان المائية، فحصلت على هدية رمزية ومبلغ نقدي كتشجيع لموهبتي، إضافة لدفتر رسم وعلبة ألوان. هذا الحدث حفزني فيما بعد على رسم الوجوه مقابل مبلغ نقدي، ساعدني على الاعتماد على نفسي في تأمين احتياجاتي، ومساعدة والدي بشكل بسيط، وفي المرحلة الإعدادية انتقلت لأدرس في مدينة حمص، فكنت أعمل بالرسم وأدرس، فحصلت على الثانوية العامة، ثم خضعت لعدة دورات بالرسم، وكنت أحصل دائماً على المرتبة الأولى على أقراني، ثم التحقت بالخدمة الإلزامية، حيث خدمت بصفة رسام، ولم أتوقف عن الرسم، فكنت أقيم معارضي في بعض الأحيان على حسابي الشخصي وأستأجر صالة العرض.
رؤيته للتعليم الأكاديمي أنه يؤسّس الفنان ويوسّع مداركه الفنية وآفاقه الفلسفية للحياة، ويعطيه دفعاً كبيراً للأمام، أما اختياره للمواضيع المراد رسمها فإن عين الفنان كالكاميرا تلتقط المشهد الأكثر تأثيراً وتعبيراً وجمالية بعيداً عن النقل والزيف، ليخرج اللوحة بكامل جمالها وأناقتها مضيفاً إليها من روحه وأحاسيسه ما يزيدها جاذبية وجمالاً.
أحمد رحال من مواليد 1953 قرية أبو دالي في ريف حمص الشرقي، عضو نقابة الفنانين التشكيليين بحمص، له معارض فردية في حلب ودمشق واللاذقية، وله لوحات في أغلب المحافظات وفي المؤسّسات العامة والخاصة، إلى جانب مواظبته شبه الدائمة على المشاركة في المعارض الجماعية.
آصف إبراهيم