مجلة البعث الأسبوعية

من الهجوم إلى الدفاع.. لأوّل مرة واشنطن تجد نفسها مكتوفة الأيدي

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:

تحاول الإدارة الأمريكية في الآونة الأخيرة الإيحاء بأنها لا تزال تمسك بزمام الأمور، وأنها قادرة بالفعل على ابتزاز دول العالم بتقاريرها التي تصدرها على أساس سنوي حول وضع الحريات وحقوق الإنسان في العالم، فإذا أرادت الحصول على مصلحة معيّنة من دولة ما أو إجبارها على تقديم تنازل في شأن معيّن، أوحت إلى وزارة خارجيّتها بإصدار تقرير حول حقوق الإنسان في هذه الدولة، أو عملت على تظهير مشكلة داخلية في هذه الدول واللعب على وتر مشاعر سكانها لتأليبهم على السلطة في هذه الدولة، وهذا كثيراً ما تلجأ إليه الخارجية الأمريكية لإحكام سيطرتها على دول معيّنة وابتزازها للحصول منها على تنازلات في ملفات دولية عالقة.

هذا الأمر غالباً ما كانت تمارسه الإدارة الأمريكية في ابتزاز كل من الصين وروسيا وإيران التي تعتقد واشنطن أنها تهدّد بسياساتها المستقلة الهيمنة الأمريكية على العالم، وبالتالي عمدت هذه الإدارة، شأنها في ذلك شأن الإدارات السابقة، إلى إصدار تقارير سنوية بخصوص حالة الحريات وحقوق الإنسان فيها، وذلك في محاولة للحصول على تنازلات سياسية في ملفاتٍ ما لا تزال الإدارة الأمريكية عاجزة عن الحصول عليها بالطرق الدبلوماسية الرسمية، الأمر الذي يدفعها إلى استخدام الحرب الناعمة التي تعتقد من خلالها أنها تستطيع الحصول على أهدافها، ومن أساليب هذه الحرب طبعاً إصدار تقاريرها حول وضع معيّن في هذه البلاد ثم تضخيمها إعلامياً لإحداث أكبر نوع من الضغط على السلطة في هذه البلاد.

وهذا الأمر لا يقتصر فقط على الدول التي تنافسها أو تختلف معها دولياً، بل يتعدّى ذلك إلى الدول التي تسير في كنف الإدارة الأمريكية، وهذا ما حدث مثلاً مع السعودية على يد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي تحدّث صراحة عن ضرورة دفعها أموالاً ثمناً للحماية الأمريكية التي تتمتّع بها.

وما يهمّنا في هذا الميدان ما حصل مؤخراً من انحسار القدرة الأمريكية على التأثير في الوضع الداخلي لكل من روسيا والصين على سبيل المثال لا الحصر، حيث وجدت الإدارة الأمريكية نفسها عاجزة عن التأثير في الوضع الداخلي للصين من خلال تقارير خارجيتها المتحيّزة حول الحريات وحقوق الإنسان هناك، إذ أوضحت الصين أن “الولايات المتحدة الأمريكية لا تهتم بحقوق الإنسان على الإطلاق، وإنما تستخدمها ذريعة للافتراء وكبح جماح الصين والضغط عليها باستمرار”.

وبغض النظر عن هذا الرد الآنيّ للصين على الولايات المتحدة الأمريكية، فإن بكين عمدت في غير مناسبة إلى الإضاءة على واقع الحريات وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة نفسها، بل قامت بنبش جرائم السلطات الأمريكية بحق السكان الأصليين “الهنود الحمر” منذ تأسيسها إلى الآن، كما عمدت إلى الإضاءة على الوضع الداخلي الأمريكي وجرائم التمييز العنصري والاستغلال والاضطهاد بحق الأقليات، وغير ذلك من الأمور التي تشير إلى توجّه الصين إلى التعامل مع الولايات المتحدة بالمثل.

ولا يختلف الأمر كثيراً عند الحديث عن روسيا التي تعرّضت في مراحل سابقة لانتقادات كثيرة من الخارجية الأمريكية حول الحريات وحقوق الإنسان، وصارت جزءاً دائماً من تقارير وزارة الخارجية الأمريكية السنوية حول ذلك، حيث لم يوفّر المسؤولون الروس فرصة للردّ على الاتهامات الأمريكية في هذا الشأن دون إظهار  أن الولايات المتحدة ليست مؤهّلة للحديث عن الديمقراطيات في العالم، أو لإعطاء دروس حول الديمقراطية، فقد أشار ألكسندر لوكاشيفيتش الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الروسية منذ نحو عشر سنوات إلى أن الانتخابات التي جرت في الولايات المتحدة آنذاك، أظهرت أن النظام الانتخابي الأمريكي الذي تشكّل خلال القرنين الماضيين، لا يرقي إلى المعايير الديمقراطية المعاصرة في كثير من النقاط، منتقداً الطريقة غير المباشرة لانتخاب الرئيس، حيث يختار الأمريكيون عدداً من “كبار الناخبين” الذين يشكّلون هيئة انتخابية، الأمر الذي يؤدّي إلى حرمان عدد كبير من الأمريكيين من حقهم الانتخابي، وكذلك عدم وجود آلية لمراقبة الانتخابات في الوقت الذي تطالب فيه واشنطن الدول الأخرى بضمان وصول المراقبين غير المشروط إلى مراكز الاقتراع.

ولكنّ ما لم تكن تتوقّعه الإدارة الأمريكية أن ينتهي بها الأمر إلى أن تجد نفسها في موقع تكون أحوج فيه إلى الدفاع أو إلى بلع لسانها في مواجهة الاتهامات الروسية الأخيرة لها بالإشراف على إدارة مئات المختبرات البيولوجية حول العالم، حيث كشف المسؤولون الروس عن الحصول على وثائق كثيرة تؤكد ضلوع واشنطن بتطوير أسلحة بيولوجية في الفضاء السوفييتي السابق، وفي غيره من الأماكن على حدود الصين، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن امتلاك روسيا معلوماتٍ حول تنفيذ 10 مشاريع في أوكرانيا تضمّنت العمل مع مسبّبات الأمراض ذات العدوى الخطيرة بشكل خاص وذات التأثير الاقتصادي.

وأشار إيغور كيريلوف، رئيس قوات الحماية من الإشعاع والكيماويات والبيولوجيا التابعة للقوات المسلحة الروسية، إلى إصدار البنتاغون أمراً بالعمل على رسم خرائط لمسبّبات الأمراض الخطيرة بشكل خاص على أراضي أوكرانيا، مع النقل الإلزامي لعيّنات السلالة إلى الولايات المتحدة.

وأكدت وزارة الدفاع الروسية أن المعامل البيولوجية الأوكرانية كانت مرتبطة بشبكة يديرها البنتاغون، موضحة أن إدارة الشبكة تتم من معهد والتر ريد لأبحاث الجيش في ماريلاند.

ومع كل الوثائق التي حصل عليها الجيش الروسي بعد سيطرته على هذه المختبرات، صار من الطبيعي أن يتناوب المسؤولون الروس في الحديث عن تطوير برامج أسلحة جرثومية أمريكية في أماكن متعدّدة حول العالم، حيث أفاد قسطنطين كوساتشوف، مسؤول اللجنة البرلمانية للتحقيق في أنشطة المختبرات البيولوجية الأمريكية بأوكرانيا بأن وزارة الدفاع الروسية أبلغت عن ستة مختبرات بيولوجية أمريكية بنيجيريا، ورأى بعض الخبراء، أن جدري القردة بدأ في الانتشار من نيجيريا.

وقد تجاهلت نائبة وزير الخارجية الأمريكي، فيكتوريا نولاند، دعوة رسمية أرسلت إليها من اللجنة البرلمانية الروسية للتحقيق في أنشطة المعامل البيولوجية الأمريكية في أوكرانيا، وذلك حسبما صرّحت به الرئيسة المشاركة للجنة البرلمانية، إيرينا ياروفايا، مؤكدة أن ذلك “في حدّ ذاته يكشف بشكل أكبر جوهر الطبيعة الخطيرة المتعمّدة لمشروع المختبرات البيولوجية العسكرية الأمريكية بأكمله”.

ردّ الفعل الأمريكي على الدعوات الروسية المتتالية إلى التعاون في التحقيق حول نشاط المختبرات البيولوجية الأمريكية حول العالم، يضع إشارات استفهام أوّلاً حول سبب التهرّب الأمريكي من التعاون، وثانياً يشير بكل صراحة إلى أن الكثير من الأمراض التي انتشرت في دول العالم في السنوات الخمسين الماضية ابتداء من كوبا التي انتشر فيها وباء “حمّى الضنك” في السبعينيات من القرن الماضي، واحتج مواطنوها رسمياً على قيام واشنطن بنشره باستخدام البعوض الزاعج، حيث أكدت وزارة الدفاع الروسية أن الإدارة العسكرية الأمريكية تعاملت معه في أبحاثها في أوكرانيا، وليس انتهاء بأنفلونزا القردة التي انتشرت مؤخراً في العالم انطلاقاً من المختبرات الأمريكية في نيجيريا، إنما هي حرب بيولوجية تشنّها الإدارة الأمريكية من خلال مختبراتها على العالم بأسره لأسباب اقتصادية تتعلق بجني العائدات عبر تقديم الترياق لهذه الأمراض، وسياسية من خلال الاستمرار في الهيمنة على العالم الذي سيستمر في الحاجة إلى حكومة الولايات المتحدة، ولكن الواقع الذي اختلف الآن هو أن روسيا وعبر وصولها إلى آلاف الوثائق التي تدين الولايات المتحدة في هذا الجانب باتت أكثر قدرة على إدارة هذا الملف من خلال كشفها عن المزيد من الوثائق التي تدين واشنطن وتجعلها تتخذ موقف المدافع بدلاً من موقف الهجوم الذي اعتادت على اتخاذه في كثير من الملفات الدولية.