بذور الجفاف المميت في القرن الأفريقي
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
يعاني القرن الأفريقي مرة أخرى من الجفاف الناجم عن تغير المناخ وفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة، حيث يواجه أكثر من 20 مليون شخص، وما لا يقل عن 10 ملايين طفل ظروف الجفاف القاسية. وبحسب التقرير، فقد باتت دول القرن الإفريقي بأمس الحاجة للمساعدات من قبل وكالات الأمم المتحدة (برنامج الأغذية العالمي، ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين واليونيسيف) لمنع انزلاق أجزاء من المنطقة إلى المجاعة.
لقد تضررت الزراعة في المنطقة عاماً بعد عام بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وتناقص هطول الأمطار، وانعدام الأمن الغذائي، وبات التأثير على المجتمعات الريفية، والأطفال على وجه التحديد، مدمراً. تقدر اليونيسف أن مليوني طفل بحاجة إلى العلاج بسبب “سوء التغذية الحاد”، لا سيما في إثيوبيا والأراضي القاحلة في شمال كينيا والصومال، حيث يكون الجفاف أشد حدة.
بالإضافة إلى النقص في الغذاء، يؤدي الجفاف إلى تفاقم أزمة المياه في المنطقة، حيث تقول الأمم المتحدة إن 8.5 مليون شخص (بما في ذلك 4.2 مليون طفل) يواجهون نقصاً حاداً في المياه. على سبيل المثال، إن الوضع في إثيوبيا مخيف، إذ أن حوالي 60 في المائة من السكان (أي حوالي 70 مليون) لا يحصلون على مياه الشرب النظيفة مع أو بدون الجفاف. كما أن الجداول والآبار والبرك التي يعتمد عليها سكان المناطق النائية إما أن تجف أو تشح تماماً، وتصبح مصادر المياه المعقمة ملوثة بالنفايات الحيوانية والبشرية، مما يزيد من مخاطر الأمراض التي تنقلها المياه والكوليرا والإسهال، وهي الأسباب الرئيسية للوفاة بين الأطفال دون سن الخامسة في البلاد.
ونتيجة لذلك الوضع المأساوي، تضطر العائلات اليائسة إلى اتخاذ إجراءات صارمة لمحاولة البقاء على قيد الحياة، حيث يغادر مئات الآلاف منازلهم بحثاُ عن الطعام والماء والمراعي للحيوانات، وهو ما يؤدي إلى خلق العديد من القضايا وتفاقمها، إذ أصبح الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الإنجابية صعباً أو مستحيلاً، حيث يجبر حوالي 1.1 مليون من الأطفال على ترك المدارس. بالاضافة الى ذلك، تصبح الفتيات والنساء أكثر عرضة للإكراه البدني، وعمالة الأطفال والزواج القسري، الأمر الذي يؤدي إلى تفجر مسألة النزوح بشكل هائل، وهي مشكلة ضخمة بالفعل في جميع أنحاء المنطقة، وتحديداً في إثيوبيا، فوفقاً إلى مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين (بدءاً من آذار 2022) نزح ما يقدر بـ 5.582.000 شخصاً نزوحاً داخلياً بسبب النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية.
مع ارتفاع درجة حرارة العالم بسبب انبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي تتدفق في الغلاف الجوي السفلي، تزداد حتمية أنماط الطقس الشديدة بما في ذلك الجفاف، حيث كان يُنظر إلى الجفاف مثل حرائق الغابات وموجات الحرارة والأمطار الموسمية تاريخياً على أنه “كارثة طبيعية”، لكن تواتر هذه الأحداث وحدتها لم يعد “طبيعياً” ويجب أن يُفهم الآن على أنه من صنع الإنسان. وبعيداً عن كونها أحداثاً غريبة، أصبحت مثل هذه الانفجارات المناخية الكارثية شائعة، وعلى الرغم من عدم إنتاج أي من السموم التي تؤدي إلى تغير المناخ، فإن الأشخاص الأكثر تضرراً هم أفقر الناس في البلدان أو المناطق الأشد فقراً.
لقد زُرعت بذور الجفاف المميت في القرن الأفريقي، وغُذيت من سلوك الناس في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان ودول غنية أخرى، حيث إن أنماط الحياة المادية للدول المتقدمة الغنية- بشكل غير متناسب أغنى الناس في هذه البلدان- المتجذرة في النزعة الاستهلاكية غير المسؤولة بما في ذلك النظم الغذائية التي تتمحور حول المنتجات الغذائية الحيوانية، هي التي تسببت في الأزمة البيئية وإدامتها. ولهذا من المعيب أن ترفض حكومات هذه الدول الوفاء بديونها ومسؤوليتها في تنظيف وإنهاء هذه الفوضى، لكن على العكس من ذلك، لأن الصحة الاقتصادية تعتمد على الاستهلاك الجشع، فإنهم يواصلون تعزيز أنماط المعيشة التي تعمق الأزمة.
لم يتم بعد الوفاء بالالتزامات التي قطعتها الدول الغنية على نفسها قبل 12 عاماً بمنح 100 مليار دولار سنوياً للدول النامية، ففي عام 2019 تم الحصول على أعلى مبلغ 79.6 مليار دولار أمريكي، وكان 71 ٪ منه على شكل قروض التي تمكّن النفوذ السياسي والاقتصادي للدول المانحة، وتديم الاستغلال والسيطرة بعد الاستعمار، وتضمن بقاء إفريقيا جنوب الصحراء فقيرة، ومستعبدة بشكل أو بآخر.
ما زالت القوى الاستعمارية يعرضون دعماً محدوداً بشروط للبلدان والمناطق الأكثر تعرضاً للخطر، ففي قمة مجموعة العشرين طالب رؤساء الدول من الدول ذات الدخل المرتفع ببذل المزيد للوفاء بوعودها، ودعوا إلى تقديم المنح وليس القروض. وفي هذا السياق، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أنه من أجل “إعادة بناء الثقة، يجب على البلدان المتقدمة أن توضح الآن كيف ستقدم بفعالية 100 مليون مليار دولار في تمويل المناخ سنوياً إلى العالم النامي، كما وعدت منذ أكثر من عقد”.
وحتى في الدورة 26 لمؤتمر الأطراف في غلاسكو، حيث كان تمويل المناخ قضية أساسية قيد الاهتمام و الدراسة، فشلت الدول الغنية مرة أخرى، وفشلوا في احترام كلمتهم، وفي التصرف بمسؤولية لصالح الدول الفقيرة، كما فشلوا في الدفاع عن الصالح الجماعي وصحة الكوكب. لقد كان الأمر متوقعاً، إذ لا يمكن الوثوق بالسياسيين وفي الحقيقة يجب أن تكون التعهدات الوطنية والدولية بشأن المناخ ملزمة قانونياً وقابلة للتنفيذ.
يعتبر تغير المناخ وحالة الطوارئ البيئية أزمة عالمية، وعلى هذا النحو، فإنه يتطلب نهجاً عالمياً. لقد قيل هذا عدة مرات، ومع ذلك لا تزال المصلحة الذاتية الوطنية والضعف السياسي يهيمنان على سياسات وأولويات الحكومات والسياسيين الغربيين. من هنا يجب مواجهة هذه الأزمة التي تعتبر أكبر قضية واجهتها البشرية على الإطلاق، وأن يبدأ العلاج بشكل جدي، وأن يتغير هذا النهج القومي الضيق. وكما هو الحال مع مجالات الاهتمام الرئيسية الأخرى – النزاع المسلح، وعدم المساواة، وتهجير الأشخاص، والفقر- هناك حاجة ماسة إلى سياسات عالمية موحدة ومنسقة وأمم متحدة قوية، ولكن التغيير الوحيد المطلوب و الأكثر أهمية هو تحول أساسي في المواقف، والابتعاد عن القبلية والتنافس والانقسام إلى التعاون والوحدة. ويجب الاعتراف ليس فكرياً أو نظرياً، بل واقعياً أن البشرية واحدة، وأننا نشكل جزءاً من الحياة الجماعية التي هي كوكب الأرض.