منابر معرفية مغيبة
سلوى عباس
لم يتجاوز حديثي معها أكثر من فترة انتظارنا أمام الصراف الآلي لتبادرني بالكلام: هل تعملين بسلك التعليم؟ أجبتها: لا! فتابعت: أحسن لك، فأي مهنة أخرى أفضل من وجع القلب الذي نعيشه مع جيل لا معايير تحكم التعامل معه، بدءاً من الأسرة التي أصبحت تلقي العبء على المدرسة وكأن المدّرس لديه مصباح علاء الدين ينشىء طالباً جيداً دون مساعدتهم، مروراً بالكادر التدريسي والإداري الذي لم يعد لديه هذا الاهتمام بتنشئة جيل متعلم يفهم ما تعلم، وليس وعاء يسكب المعلومات في عقله لتتلاشى من ذهنه مع انتهاء العام الدراسي.
قلت لها: إن مسؤولية المدرس مهمة في إعداد جيل مؤهل لحياة يكون فاعلاً فيها وصانعاً لها، فأجابتني هذه الرؤية الوردية للتعليم لم تعد موجودة في زمننا، والتعليم أصبح أكبر من طاقتنا على التحمل، لكن لا أخفيك.. أسعى الآن للانتقال إلى العمل الإداري كأمينة مكتبة في أي مدرسة.. يكفيني ثلاثون عاماً في التدريس، فهذه المهمة مريحة لا تكلفني أكثر من توزيع الكتب للطلاب في أول العام، واستلامها منهم في نهايته، فأجبتها: أنت مخطئة في نظرتك لمهمة أمينة المكتبة، هي ليست مهمة سهلة، لأن المكتبة المدرسية أول ما يقابل الطالب في حياته من أنواع المكتبات، ولذلك يقع عليها عبء جيل قارئ تتأصل فيه عادة القراءة المستمرة طيلة حياته، فأجابتي بلهجة تنم عن سخرية: كلامك هذا في واد وواقع المكتبات في مدارسنا في واد آخر.
أعادني هذا الحديث العابر بالذاكرة إلى أيام كانت المدرسة هي بيتنا الأول، نعيش مع مدرّساتنا ومدرّسينا شغف الحصول على المعلومة التي يقدمونها لنا بكثير من الحب، ونحن نتلقاها بكثير من الامتنان والتقدير. وأذكر كيف كانت الهدايا التي تهدى لنا مع الجلاء المدرسي نطلب أن تكون قصة أو كتاباً يتناسب مع مرحلتنا العمرية.. حينها كان المشرف على المكتبة مدركاً بأن القراءة هي الطريقة الأهم لرقي العقل والذوق وطعام الفكر، وتكرّس لدى الطلاب عادة المطالعة وتجعلها جزءاً من حياتهم، كما تنمي شخصياتهم وتكسبهم مهارات جديدة ومتنوعة، إذ يقع على كاهل المدرسة الدور الريادي لإبراز توظيف المكتبة واثبات دورها بأنها قلب المدرسة النابض والرئة التي تتنفس منها لاكتساب المعرفة الإنسانية من كل جوانبها، عبر التعاون بين إدارة المدرسة والكادر التدريسي بوضع خطة لتوظيف المكتبة بشكل فاعل أكثر، لما لها من دورٍ مهم في إثراء العملية التعليمية للطلاب.
في وقتنا الحاضر، لم تعد المكتبة المدرسية مجرد نشاط خارج المواد الدراسية المقررة، وإنما أصبحت مركزاً للتعلم يستطيع الطالب من خلاله استــخدام مـصادرها المختلفة للحصول على المعلومات بهدف البحث والاستشارة، وأصبح وجودها أكثر أهمية بوجود متخصصين في علم المكتبات إذ تتجلى مسؤولية كل أمين مكتبة بالاجتماع مع الطلاب وشرح أهمية القراءة، واصطحابهم إلى معارض الكتب ليطلعوا عن قرب على واقع الكتاب ويتعلموا كيف يختارون الكتاب الذي يناسبهم ويقدم لهم الفائدة ويعيشوا الطقس المعرفي.
ولكي تؤدي المكتبات المدرسية رسالتها بأمانة ومصداقية يجب ان تتوفر فيها أحدث مصادر التعلم المطبوعة وغير المطبوعة للمستفيدين كافة وفي جميع الاوقات وبأفضل الوسائل، إضافة الى المسؤولية في تقديم المشورة الفنية والمساهمة في تنمية مواهب القراء وقدراتهم، والعمل على توفير قاعات للمحاضرات والندوات لتكون بمثابة ناد للقراءة يعمل المسؤول عن المكتبة على مناقشة الطلاب بالكتب التي قرؤوها وماذا استفادوا منها، وتصويب اتجاهاتهم بما يخدم ثقافتهم، فهل لنا أن نعيد النظر بواقع مكتباتنا المدرسية لتستعيد دورها كمنابر معرفية ورافداً مهماً للعملية التربوية.