مجلة البعث الأسبوعية

 جواد الأسدي.. الرحالة المسرحية وابن المسرح السوري

البعث الأسبوعية- أمينة عباس

لم يكن مفاجئاً ولا غريباً اختيار الفنان المسرحي العراقي د.جواد الأسدي وهو من أبرز المسرحيين العرب المغامرين وصاحب البصمة المعروفة في المسرح ليكتب رسالة اليوم العربي للمسرح للعام 2023 والذي يصادف العاشر من كانون ثاني، حيث سيلقي الأسدي الرسالة خلال افتتاح الدورة الثالثة عشرة من مهرجان المسرح العربي الذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح بالتعاون مع وزارة الشباب والثقافة والاتصال المغربية في مدينة الدار البيضاء.

ابن المسرح السوري

لدمشق حصة كبيرة عند جواد الأسدي كاتباً ومخرجاً مسرحياً، وهذا ما يجعله يكرر مراراً أنه ابن المسرح السوري، ولا غرابة في ذلك وقد قصد دمشق من بلغاريا حاملاً معه شهادة الدكتوراه في الإخراج المسرحي بعد أن تحوّلت بلده العراق في ذلك الزمن إلى ساحة كبيرة للحرب، وحين بدأ البحث عن المنصة التي يمكن لها أن تتسع لمقترحاته كان خياره التعامل مع المسرح الفلسطيني في دمشق وكأنه فيه يعود إلى العراق، حيث أحس أنّ ما يوازي إحساسه ببلاده وافتكاكه القسري عنها كانت فلسطين وطناً آخر يُشبه العراق في طبيعته وجماليته، لذلك كان عمله على تركيب جماليات النص الفلسطيني على خشبة المسرح كما لو أنه يصنع من فلسطين حالةً استعاديةً لبلده، وكما لو أنه يُنتج طاقةً ممزوجةً من وجع البلدين، تلك الطاقة التي تعطيه النار والموقد الكبير الذي يغذّي روحه الملتهبة في أعماقه ليستطيع أن يقود بروفاته ويكتب نصّه ويتمكّن من السير قُدماً في تلك الممرّات، فقدم العديد من العروض مع هذا المسرح لمدة 14 عاماً توَّجَها بمسرحيته الشهيرة “الاغتصاب” وبالتوازي مع عمله مع المسرح الوطني الفلسطيني ولاحقاً مع المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق أخرج العديد من الأعمال المسرحية في سورية، منها مسرحية “الحفارة” عام 1979 مع فرقة المسرح العمالي ولعب بطولتها آنذاك كل من “بسام كوسا، نجاح العبد الله، وفيق الزعيم، سليم تركماني، صبحي الرفاعي  و”مغامرة رأس المملوك جابر” لسعد الله ونوس، و”تقاسيم على العنبر” المستوحاة من نصوص لتشيخوف و”حمّام بغدادي”.

الاغتصاب

يقول جواد الأسدي أن مسرحية “الاغتصاب” مأخوذة عن نص الكاتب الإسباني أنطونيو باييخو الذي يحمل عنوان “القصة المزدوجة للدكتور بالمي” وأنه بعد قراءته لهذا النص أحس بشكل فعليّ أنه قابل لأن يتحوّل إلى حالة فلسطينية، وحينها كان الكاتب سعد الله ونوس متوقفاً عن الكتابة منذ عدة سنوات، لذلك قرر أن يتحرّش بروحه وعاطفته وكتابته، فطلب منه أن يقرأ النص، فتولدت لديه شهيّة كبيرة في استعادة الكتابة على هذا النص الذي سبق وأن كان قد قرأه، فقدّم له كتابته الأولى لنص “الاغتصاب” الذي خضع لتبادل التصوّرات، وفي النهاية أعطاه النص بنسخته النهائية التي قدم فيها الأسدي رؤية جديدة مخالفة لما قدمه ونوس الذي حين حضر البروفة النهائية في دائرة الثقافة الفلسطينية في دمشق قال له بعد العرض “هذا أجمل ما يمكن أن أشاهده على صعيد التمثيل، ولكن أرجوك أن تحذف اسمي وتكتب أن هذا النص من تأليف جواد الأسدي” وقد قُدّم العرض في دمشق وبيروت، ويعتبره اللبنانيون من أجمل ما قُدّم في تاريخ المسرح اللبناني عربيّاً على صعيد الإعداد والرؤية البصرية والتمثيل.

جواد الأسدي كاتباً

يقول جواد الأسدي أن كل النصوص المقترحة عالمياً لجميع الكتّاب الكبار تضعه في سجن جميل لأنها نصوص جميلة، ولكنه بالمقابل كان يجد نفسه أحياناً غير قادر على زحزحتها لكي يضعها على طريق آخر على الرغم من أنه في عملية الإعداد لها يضع فيها من جواد الأسدي العراقي بنسبة قليلة لكي يبقى جان جينيه كما هو، كذلك لوركا كاتبه المفضل، وحين لم يعثر الأسدي على ما يمكن أن يشفيه فيما يخصّ الحديث عن فكرة الوجع والمرارة العراقية في النصوص المسرحية لم يجد حلاًّ آخر سوى أن يقوم بالتصدّي للكتابة لأنه أراد أن يكون شاهداً على ما وقع للعراقيين عبر التاريخ من مرارة وحزن، فكتب نصه الشهير “حمام بغدادي” سارداً فيه قصة أخويه المؤلمة في العراق وتجلى فيها بمصداقية الوجع الحقيقي على خشبة المسرح، وعُرف عن الأسدي مخرجاً أنه لا يتخلى عن نصوصه بمجرد عرضها على خشبة المسرح، فهو يعود إليها كمخرج دائماً ليعيد تقديمها مراراً، وفي كل مرة بشكل جديد ومع  ممثلين آخرين إيماناً منه بأنّ الكتابة التي يكتبها تبقى غير مكتملة حتى بعد تقديم العرض، حتى تحوّل الأمر بالنسبة له إلى لعبة جمالية فيها الكثير من المتعة العبثية وإمكانية تدشين فكر المخرج وخياله وشهيّته في مفارقة العروض القديمة والذهاب إلى منطقة مختلفة من العروض.. من هنا قدم نص مسرحية “نساء في الحرب” في روما أول مرة مع ممثّلات من الجزائر، ثم قدّمها مرة ثانية في أوكرانيا مع ممثّلات أوكرانيات، ومرة ثالثة في العراق مع ممثّلات عراقيات، ومرة رابعة في بيروت مع ممثّلات لبنانيات، وحصل أمر مشابه مع مسرحية “الخادمات” وكذلك مع “حمّام بغدادي” التي قدّمها مع ممثلَين سوريين هما فايز قزق والراحل نضال سيجري، ثم أعاد إخراجها مع ممثلَين عراقيين هما حيدر أبوحيدر وعبود الحركاني.

يومياته في البروفات

دوَّن جواد الأسدي يوميات البروفات للأعمال المسرحية التي يقوم بإخراجها وأصدرها تحت عناوين مختلفة، وكانت المحاولة الأولى في تدوين البروفة في كتاب “المسرح والفلسطيني الذي فينا” وقد لجأ الأسدي إلى تدوين كل ما يحدث في البروفات لإحساسه أنه الغريب الذي يرحل إلى المدن وعنها والشخص الذي بلا سند وبلا أهل، فكانت مملكته الحقيقية رحلته بين البروفة والعرض، موضحاً في أحد حواراته أن بروفات مسرحياته أكثر وقعاً على روحه من خلال علاقتها الحارّة مع التمثيل والممثل، وعلاقته هو بهم، وهي بالنسبة له المسرّة الوحيدة التي كانت تعطيه إحساساً بأنه شخص ذو كينونة وجسد وصوت ومعنى، وأنه انطلاقاً من معلومة تقول إن المسرح وبمجرد انتهاء العرض يصبح قابلاً للزوال تولدت لديه شهيّة كبيرة في كتابة يوميّات البروفة، وقد أصبح بعد تجربة “المسرح والفلسطيني الذي فينا” مُدمناً على تدوينها، فأصدر “جماليات البروفة” و”المسرح جنّتي” وقد تحوّلت عنده الكتابة عنها إلى شيء موازٍ للعرض المسرحي، مبيناً الأسدي أنّ فعل الكتابة عنها لم يكن بإيعاز مسبق، وكانت تأتي دائماً عندما تنتهي البروفات، فيدوّن ما جاء فيها بلغة مصنوعة من نار فيها اضطراب وغربة وألم ووجع، وفيها تفكيك وقراءة للممثّل، ويفرّق الأسدي ككاتب بينها وبين كتابة النص المسرحي، فهي شيء مختلف برأيه لأنّ الكتابة للمسرح تتعلق بما يمكن أن يقول وماذا يكتب وكيف وما هي الفكرة، مع إشارته إلى أنه يعمل دائماً على تدوين ملاحظاته حول الشخصيات التي يريد الكتابة عنها، مشيراً كذلك إلى أن كل النصوص التي كتبها هي مقترحات للإخراج، ولا يمكن أن تكتمل إلا بالبروفة ومع الممثل الذي يقوم بدوره في إعادة إنتاج النص مرّة أخرى.

الممثل أولاً

لم يستطع الأسدي أن ينتمي إلى فكرة أن تتسيّد التكنولوجيا بكل معانيها البصرية العرضَ المسرحي، فالمسرح بالنسبة له يقوم بدرجة أساسية على فنّ التمثيل والممثل، وهو كمخرج يعمل كل ما بوسعه ليوفر للممثل المساحة السينوغرافية التي تخدم جماليات روحه دون اللجوء إلى المبالغة إيماناً منه أنّ كل ما يجري على خشبة المسرح يجب أن يكون في خدمة سحر الممثّل، وقد اعتاد الأسدي العمل مع ممثلين محترفين من طراز خاص في مسارح دمشق وبيروت والقاهرة والرباط وأبو ظبي، وغيرها من المدن، وسبق له العمل مع الشباب في أكثر من تجربة كمسرحية “انسوا هاملت” التي قدمها في القاهرة بالتعاون مع دار الأوبرا، ومسرحية “بجانب غارسيا لوركا” التي قدمها في فرنسا مع ممثّلات طالبات في معاهد المسرح، كذلك في مسرحية “تقاسيم على العنبر” التي قدمها في دمشق مع غسان مسعود وفايز قزقوطلبة المعهد العالي للفنون المسرحية، مؤكداً الأسدي أنه حين يعمل مع الشباب يدفع نفسه باتجاه انتقاء قاسٍ لهم لأنه يعرفُ أنّ عمله في البروفات يحتاج إلى جهد وإلى ممثّل من طراز آخر.

مسرح بابل في بيروت

في الوقت الذي كان فيه اللبنانيون يحملون حقائبهم ويغادرون البلاد توجه الأسدي إلى بيروت ليؤسس فيها مسرح بابل، ولا ينكر جواد الأسدي أن التجربة مع مسرح بابل كانت حماقة كبيرة إلا أن شهيّته للمسرح والبحث عن مكان وملاذ دفعه إلى المغامرة، فقدّم على خشبته عروضاً أوربيةوعربية لمسرحيين شباب من سورية ولبنان، وعلى الرغم من مناشدته لتقديم الدعم لمسرح بابل لم يسمِع صوته القائمون على وزارة الثقافة العراقية واللبنانية والمؤسسات البنكية اللبنانية بوصفها مؤسسات داعمةًإلى أن تمّ إحكام الحصار عليه والذي لم يكن معلناً، فقرّر العودة إلى جواد الأسدي المخرج والفنان بعد أن قتلوا شهيته المسرحية، رافضاً الأسدي التوجه في دول الخليج وأوربا، علماً أن الأوربيين فتحوا له الباب في فرنسا وألمانيا وبلجيكا، والسبب في ذلك أن عشقه لفلسطين والمسرح الوطني الفلسطيني سيشعره بخيانة كبيرة إذا وافق على أي مشروع دائم في إحدى هذه الدول، مع شعوره بالولاء الحقيقي والانتماء الفعلي بالعودة إلى دمشق والتشارك مع المسرحيين الدمشقيين والاشتغال مع السوريين والفلسطينيين الأقرب إلى طموحه الشخصي في صناعة مسرح جديد وإنسان آخر مختلف.

 

جواد الأسدي

تخرج في أكاديمية الفنون الجميلة بغداد 1972،  حاصل على شهادة الدكتوراه من بلغاريا – صوفيا – 1983 – عن أطروحته “المسرح العراقي المعاصر وإشكالية العرض المسرحي “حاز العديد من الجوائز المهمة منها:،جائزة مؤسسة الأمير كلاوس الهولندية عن مجمل نصوصه المسرحية و جائزة السلطان قابوس وجائزة مؤسسة الفكر العربي عن مسرحية «حمام بغدادي» – 2009، الجائزة الكبرى في مهرجان قرطاج الدولي – 1985 عن مسرحية «خيوط من فضة» تأليفاً وإخراجاً، جائزتان ذهبيتان في مهرجان قرطاج الدولي عن مسرحية «العائلة توت» 1983، جائزة الإخراج والتمثيل في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي 1993عن مسرحية “تقاسيم على العنبر” كما أصدر العديد من الكتب التي وثقت تجربته ونصوصه، وقد ترجم بعضها لعدة لغات.