سوسن جلال.. الوفية لفنها وحزنها
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
كثيراً ما نصادف في الحياة أشخاصاً نظن أننا نعرفهم، سواء من خلال إبداعهم، أم من خلال معلومات شخصية نعرفها عنهم من المحيط، ولكن عندما نلتقي بهم نكتشف في شخصيتهم تفاصيل مكنونة، ما إن نقترب منها حتى يبهرنا إشعاعها ويدفعنا فضولنا للاقتراب منها والتعرف إلى خفاياها، وهذا ما حصل معي في لقائي مع الفنانة التشكيلية الراحلة سوسن جلال، هذا اللقاء الذي لم يتجاوز زمنه الساعتين لكنه اختصر سنين من المعرفة، فهي شخصية دمثة وشفافة كالماء، وفي هذا اللقاء القصير والممتد في الروح لأزمان مديدة تبادلنا أرقام هواتفنا واتفقنا على التواصل، وبكل ما بروحها من ألق قالت: ليتني عرفتك منذ زمن كنا التقينا باستمرار، لكن عسى الأيام القادمة تعوضنا عن مامضى، وللأسف حكم القدر كان أسرع حيث أسلمت الفنانة سوسن روحها للموت وغابت في سديم الغياب لتترك لنا عطر ورودها الشامية التي اكتنف عبيرها ضلوعها وفنها الذي خلدها فنانة من شغف وحب.
بالأمس مرت الذكرى السنوية الأولى لرحيل السوسنة الدمشقية، وبهذه المناسبة كرمها اتحاد الفنانين التشكيليين مع مديرية الثقافة بدمشق بندوة شارك بها نقاد وفنانون وأصدقاء الراحلة تقديراً لمسيرتها الفنية التي امتدت على مدى أربعين عاماً من الفن والحب، فهي خريجة كلية الفنون الجميلة، وأول معرض لها كان مع والدها الفنان الرائد محمود جلال وأخيها الفنان خالد جلال، كما شاركت في معارض جماعية للتصوير الضوئي وأخرى فردية محلية وخارجية.
سوسن جلال فنانة شغفت بالفن فتعشّق روحها، أخذت تبحث وتستكشف حتى تشكل لديها رصيد فني تنافس به عمالقة الفن، وواصلت جهدها ودأبها لترسم مكانها في أفق الفن التشكيلي، فامتلكت أدواتها، وتميزت بتفرد الشخصية والأسلوب، كما أدركت بحسها الفني أن الروح الإنسانية تتجلى منذ بدء تكوينها في إبداعات تشكيلية تنضفر فيها المشاعر بالأحاسيس، والأفكار بالإيحاءات في حالة بحث عن ماهية الوجود والكون فنرى لوحاتها تنبض بالحس الإنساني في تناغم لوني يعبر عن حالات مختلفة من حزن، فرح، أمل، حب، حياة، حيث الدهشة تفاجئ المتلقي بأعمال مختلفة وجديدة في الرؤى والتشكيل، وفي بحثنا عن هوية الفنانة نرى تاريخها حافلاً بالعمق الروحي والمعرفي والتجدد، والرضى عن الذات النابع من إحساسها بالراحة التي تلهمها بالجديد في كل لوحة تقدمها.
في اللقاء الذي جمعني بها سألتها إذا كانت تعتمد على قراءات فلسفية خلال لقائها مع اللوحة فأجابتني: “أبداً، لأن لقائي مع اللوحة وكل ماأقرأه وأراه والموسيقا التي أسمعها والعلاقات المختلفة والجميلة التي أعيشها مع الأشخاص من حولي هي مصدر إلهام لي يختزن في الذاكرة ويخرج خلال لقائي مع اللوحة، فحالة الرسم بالنسبة لي عفوية وفطرية تتفاعل مع الصور والحالات المختزنة في ذاكرتي على اللوحة التي قد يقرؤها المتلقي موضوعات وأفكار ينسبها للوحة، لكن أنا لا أقصد فكرة محددة، والأفكار لا تخرج كلها في لوحة واحدة، وهنا تكمن جمالية الرسم أنه لا يوجد شيء متوقع واللوحة لا تعطينا تفسيراً محدداً عن فكرة معينة وإلا كنا نبعد اللوحة ونكتب أفكارنا على الجدران.
الحالة النفسية التي عاشتها الفنانة سوسن في الحرب كما الكثير من السوريين دفعها للتركيز على رسم الورد، وتجربتها بتقنية الألوان المائية تمتد لسنوات رغم اشتغالها على مواضيع أخرى بتقنية الزيتي، مع أن اهتمامها خلال مسيرتها الفنية لم يقتصر على اللوحات التشكيلية، بل أيضاً قدمت الكثير من الأعمال والخبرات في مجال الديكور ورسوم قصص الأطفال، وسلسلة لوحات خاصة بالزهور الشامية الشهيرة.
السوسنة الهادئة الوفية لحزنك وفنك ألف وردة وسلام لروحك في مستقرك الآمن الرحيم.