مع انحسار النفوذ الفرنسي.. روسيا تدخل إفريقيا من بابها الواسع..
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:
في الوقت الذي بدأ فيه النفوذ الفرنسي يتراجع في القارة الإفريقية على خلفية استمرار الحكومات الفرنسية المتعاقبة في النظر إلى الدول الإفريقية على أنها حديقة خلفية لها، فضلاً عن رفضها الاعتذار رسمياً عن حقبة الاستعمار الفرنسي السوداء في القارة، حيث لا تكاد تخلو دولة إفريقية كانت مستعمرة فرنسية من ذكريات استعمارية سيئة الصيت، ابتداء من الجزائر التي خضعت للاستعمار الفرنسي مدة 132 عاماً، وطالبت فرنسا مراراً بالاعتذار عن جرائمها المرتكبة هناك، غير أن باريس رفضت ذلك، وزادت عليه أنها لا تعترف أصلاً بوجود أمة جزائرية، الأمر الذي أثار حفيظة الحكومة الجزائرية وأدّى إلى قطيعة واضحة في العلاقات بين البلدين، جعلت الجزائر تخفض مستوى علاقاتها مع هذا البلد، في هذا الوقت كان لابدّ من تقدّم قوّة دولية عظمى للحلول محل الإمبراطورية الفرنسية، إن صحّ التعبير، لملء هذا الفراغ.
والأمر نفسه حدث طبعاً مع جيران الجزائر في الكونغو ومالي وغيرها من المستعمرات الفرنسية السابقة، وبالتالي مثّلت الثورة التي قامت بها الجزائر على السياسات الفرنسية في إفريقيا أنموذجاً لسائر الدول الإفريقية تحذو حذوه، فبدأت الدول الإفريقية تبتعد في علاقاتها عن فرنسا لتقترب من كل من الصين وروسيا اللتين دخلتا إلى القارة بمشاريع تنموية خلافاً للسياسة الفرنسية القائمة أساساً على الاستغلال وسرقة مقدّرات الدول.
وما يهمّنا هنا هو الحديث عن العلاقة الروسية مع القارة الإفريقية على خلفية الرغبة الإفريقية في الخروج من العباءة الفرنسية من جهة، ومن جهة أخرى وهي الأهم في الوقت الراهن، أن الحكومة الفرنسية جزء من نظام العقوبات الغربي المفروض على روسيا على خلفية العملية الخاصة التي يقوم بها الجيش الروسي لحماية سكان إقليم دونباس في أوكرانيا من بطش النازيين الجدد، حيث أصرّت باريس ومعها عدد كبير من العواصم الغربية على فرض عقوبات غير مسبوقة على الاقتصاد الروسي، وخاصة في مجال الطاقة، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع أسعار الوقود في العالم، فضلاً عن عرقلة سلاسل الغذاء والتجارة، وهذا طبعاً يضرّ بالدرجة الأولى الدول الإفريقية التي تعدّ أكبر مستورد للحبوب الأوكرانية والروسية.
وبينما حاول الغرب تصوير أزمة الغذاء الناشئة على أنها إنتاج روسي بامتياز، لم تقتنع أغلب الحكومات الإفريقية بهذا التفسير، بل على العكس وجّهت أصابع الاتهام إلى الغرب الاستعماري الذي يصرّ على صناعة الأزمات خدمة لمصالح شركاته التي تحصد أرباحاً قياسية في مثل هذه الظروف.
عند هذا المفترق وقفت الدول الإفريقية تراقب المشهد جيّداً وتبحث عن حلول للأزمات المستجدة التي خلقتها السياسات الغربية الفاشلة، حيث لم تقُم أيٌّ من الحكومات الغربية بمدّ يد العون إلى هذه الدول بفعل محاولتها أولاً الاستفادة من ذلك في تأليب دول العالم الثالث على روسيا بوصفها المتسبّبة في الأزمة الحالية حسب زعمها، وثانياً وهو الأهم عجزها عن القيام بذلك لأن عقوباتها المفروضة على روسيا أصابت أوّل ما أصابت الاقتصاد الغربي الذي كان حتى زمن قريب يدّعي أنه قادر على مقارعة الاقتصادات الأخرى وإجبارها على التعامل بقوانينه وقواعده الرأسمالية الرامية بالمحصلة إلى الهيمنة على ثروات الشعوب وقرارها السياسي.
ولكن الجانب الروسي تنبّه مبكّراً إلى محاولات الغرب إقناع دول العالم الثالث أن روسيا هي المسؤولة عن أزمة الغذاء الحالية، لذلك جاءت جولة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى إفريقيا لتوضيح وجهة النظر الروسية حول الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا، وأن روسيا تضع كل إمكاناتها في سبيل تمكين البواخر والسفن الحاملة للقمح الأوكراني من الوصول إلى مبتغاها في العالم، فالقوات الروسية أمّنت بالفعل ممراتٍ عبر البحر الأسود لمرور سفن الحبوب، ولكن النظام في كييف هو الذي يعرقل حركة السفن والبضائع من الموانئ الأوكرانية لأنه قام بزرع الألغام البحرية هناك، وذلك على الرغم من قدرة النظام في كييف على استخدام ممراتٍ أخرى لتصدير قمحه إلى العالم، ولكنه يصرّ على صناعة أزمة حبوب بتحريض من أسياده الغربيين.
والأوروبيون اعتبروا أن من حق الناتو الهيمنة وفعل ما يحلو له، بينما موسكو ترفض هذه السياسة، وتشدّد على أنه لا يمكن لدول الحلف أن تحافظ على أمنها بتهديد أمن دولة أخرى، ومن هنا يجب أن يدرك شركاء روسيا في إفريقيا أن ما يقوم به الغرب هو بناء عالم أحاديّ القطب ومنع تشكّل نظام عالمي ديمقراطي جديد، فالغرب يخيّر العالم بين اتباع أحادية القطب والرضوخ له، أو مواجهة العقوبات والتهديد.
وقد تناول لافروف قضايا كثيرة في جولته الإفريقية تشكّل محدّداتٍ للنظام العالمي الجديد الذي تحدّث عنه، منها أن أغلبية الدول لا تقبل النهج الاستعماري الغربي وتودّ العيش باستقلال، كما أشار إلى انعدام الثقة بالدولار بسبب تقلباته والانحياز إلى التعامل بالعملات الوطنية، وهي أمور في الواقع تدغدغ مشاعر العالم الثالث الذي يسعى دائماً إلى التخلص من نير الهيمنة والتبعية للغرب المتوحّش، والتمكّن من استثمار ثرواته بعيداً عن الاستغلال.
فسعي روسيا إلى تعزيز وتطوير سلاسل التوريد بينها وبين إفريقيا وتعزيز التجارة، ينسجم تماماً مع ما يسعى الشركاء في إفريقيا إلى تحقيقه، وهو التخلّص من النظام العالمي السائد الذي يجعلهم عبيداً للغرب، والوصول إلى عالم متعدّد الأقطاب تتمتع فيه جميع الدول بثرواتها ومقدّراتها وتؤمّن مستوى من العيش لائقاً لشعوبها.
والمهم في كل ذلك أن لافروف في جولته الإفريقية التي شملت القاهرة أولاً ثم أوغندا وجمهورية الكونغو وإثيوبيا التي تحتضن مقرّ الاتحاد الإفريقي، أراد أن يوصل رسالة واضحة إلى الدول الغربية هي أن مشروع عزل روسيا عن العالم قد فشل لأنه يحمل بين طيّاته بذور فشله، فلا أحد عاقلاً يمكنه أن يفرض عقوباتٍ على سلعة معيّنة يكون هو المتضرّر الأول من فقدانها، ومن الواضح أن واضعي فكرة “عزل روسيا” أخطؤوا في الحسابات. فاستناداً إلى التصريحات الساخرة للمتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، فإن الغرب منشغل بـ”فكرة ثابتة” جديدة، هي إجبار ممثلي الدول الأجنبية على رفض التقاط الصور مع لافروف، “حتى لا تستطيع موسكو التأكيد بهذه الصور أنها ليست منبوذة دولياً”.
وختم زيارته بمؤتمر صحفي في أوغندا، أكد فيه أن دور القارة الإفريقية في المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية سيزداد بشكل كبير، مشيراً إلى أن ذلك سيحدث بغض النظر عمّا يحدث في الاتجاه الغربي، الذي يلغي نفسه الآن، وأن ذلك سيسرّع وتيرة العلاقات الروسية الإفريقية ويؤدّي إلى تقارب أوسع، مشدّداً على أن ذلك سيزيد بشكل موضوعي من نصيب التوجّه الإفريقي لأوساط الأعمال الروسية، وأن الاستعدادات للقمة الروسية الإفريقية الثانية، التي ستكون علامة فارقة ومهمة في تعزيز التعاون الروسي الإفريقي، قد بدأت بالفعل.
إذن، هناك اتفاقات اقتصادية كبيرة ومهمّة يتوجّه الروسي إلى إبرامها مع شركائه الأفارقة، وهي بالمحصلة تؤكد أن الدور الغربي في إفريقيا أصبح في طور الانحسار، وربما يحل النفوذ الروسي محل النفوذ الغربي في هذه القارة، ليس لأن روسيا سعت إلى ذلك فعلاً، بل لأن الدول الغربية مجتمعة صنعت هذا السيناريو بنفسها عبر العقوبات الهستيرية التي فرضتها على روسيا والتي أدّت بالمحصلة إلى تغيير في شبكة العلاقات الدولية لمصلحة الطرف المنتصر أوّلاً عبر الصمود أمام هذه العقوبات، كما أنه يمثل الآن ودون منازع الجهة الوحيدة القادرة على انتشال العالم من أزمة غذاء تسبّب بها الغرب الاستعماري من خلال سياساته، وخاصة أن روسيا أنتجت هذا العام نحو مئة وثلاثين مليون طن من القمح، وتمكّنت من تصدير ثلاثين مليون طن من إنتاجها إلى العالم، ولاسيما إلى الدول الإفريقية، وبالتالي فإن الدول الإفريقية عليها أن تختار بين الجهة الموثوقة التي تستطيع إمدادها بحاجتها من الغذاء، وبين الغرب الذي يستخدم أزمة الغذاء سلاحاً في مواجهة روسيا التي رفضت الانصياع لأوامر الغرب الذي يسعى إلى فرض نظامه على العالم، ولا يهمّه بالمحصلة ما يحدث في هذه القارة من صراعاتٍ ونزاعاتٍ ومجاعاتٍ بقدر ما يهمّه ذلك في تعزيز هيمنته على العالم.