دراساتصحيفة البعث

من إيطاليا سيبدأ الانهيار

قسم الدراسات

منذ أن تلقى الرئيس الإيطالي، سيرجيو ماتاريلا، تهديدات بالقتل، بدا من الواضح أن إيطاليا في مأزق كبير.. هذه التهديدات التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تعكس مدى عمق الأزمة السياسية في إيطاليا، والتي لم تعد موجّهة ضد حزب سياسي حاكم أو نخبة سياسية معيّنة، وإنما باتت تستهدف الدولة ومؤسساتها ودستورها.

اليوم تستعد إيطاليا لإجراء انتخابات مبكرة في 24 أيلول القادم بعد استقالة رئيس الحكومة ماريو دراغي، والحديث يدور حول تصويت مبكر في انتخابات البرلمان الوطني في 25 أيلول القادم، وبهذا الشكل فإن إيطاليا تنتظر أول انتخابات خريفية منذ أكثر من 100 عام.

من غير المستبعد أن تكون استقالة دراغي بداية لانهيار الاتحاد الأوروبي، التي باتت تتسارع خطواته منذ خروج بريطانيا. وبلغة الأرقام، يبلغ الدين العام لإيطاليا 155٪ من الناتج المحلي الإجمالي، كما يبلغ عجز ميزانيتها 7.2٪ من الناتج المحلي الإجمالي (2021)، وحتى ميزان مدفوعاتها الآن سلبي أيضاً، وهذا يعني أن إيطاليا مفلسة، لكنها لم تعلن إفلاسها علانية، لأن البنك المركزي الأوروبي طبع أموالاً غير مضمونة، وأقرضها للحكومة الإيطالية بسعر فائدة قريب من الصفر. وبفضل ذلك، كانت مدفوعات الفائدة منخفضة، لكن إيطاليا لم تكن قادرة على سدادها دون دعم جديد من البنك المركزي الأوروبي. حتى بعد استقالة ماريو دراغي، قفزت الفائدة على السندات الإيطالية إلى 3.51٪ -قبل عام كانت أقل بكثير من 1٪- أي أن مشكلة الديون وتمويلها أصبحت أسوأ بكثير!

وليست إيطاليا وحدها من يعاني هذه الأزمة، لأن التضخم في الاتحاد الأوروبي بات خارجاً عن السيطرة، بل يدمّر اقتصادات جميع أعضائه. على سبيل المثال، يعاني الألمان من التضخم، ويتزايد الاستياء من أولاف شولتس، ومن المحتمل أن يواجه قريباً أزمة الحكومة الائتلافية، وسيتعيّن عليه الاستقالة، وربما سيتطوّر وضع مماثل في بعض الدول الأوروبية الأخرى.

لقد بات التضخم ومكافحته هو الموضوع السياسي الرئيسي في ألمانيا، والمهمّة الرئيسية للحكومة الألمانية الحالية والمستقبلية، حتى يصبح نقص الغاز الروسي في الشتاء هو الموضوع الرئيسي. أي بمجرد أن تبدأ أزمة حكومية في ألمانيا، ستبدأ المعركة بين جنوب وشمال منطقة اليورو من أجل الحق في تحديد السياسة المالية، حيث تتعارض مصالح شمال وجنوب أوروبا، خاصةً وأن ألمانيا ستصرّ على أن يوقف البنك المركزي الأوروبي التيسير الكمي، ويرفع أسعار الفائدة، لكن تشديد السياسة المالية سيؤدي على الفور إلى إفلاس إيطاليا واليونان، والأعضاء الضعفاء الآخرين في منطقة اليورو، وسيصرّ الجنوب على استمرار وزيادة حجم طباعة النقود، حتى لو كان ذلك يعني المزيد من التضخم في أوروبا.

وبشكل منطقي، لا يمكن حلّ هذا التناقض، لذلك، ستنهار منطقة اليورو، وعليه فإن الأوروبيين بحاجة إلى تحديد أيّ من قادتهم بشكل فردي أو بشكل جماعي سيذهب إلى فلاديمير بوتين حتى لا يقطع الغاز في الشتاء.

وعلى فرض أنه تمّ النجاة من سيناريو الانهيار، إلا أن الوضع الداخلي في إيطاليا سيؤثر بشكل مباشر على منطقة اليورو، وربما يسرّع عملية الانهيار على المدى القريب، وخاصةً إذا أتيحت الفرصة لحزب “فراتيلي ديتاليا” للوصول إلى الحكم بعد 100 عام من تجربة موسوليني، حيث يوصف حزب “فراتيلي ديتاليا” بأنه ينتمي عقائدياً إلى توجهات “الفاشيين الجدد”، ويستلهم أيديولوجيته من موسوليني الذي وصل إلى الحكم في إيطاليا عام 1922، وتميّز بكونه المحاولة الأولى لتأسيس ديكتاتورية شمولية في أوروبا الغربية.

ومن خلال تصريحات الديماغوجي رئيس رابطة الشمال، ماتيو سالفيني، يبدو جلياً أن السياسيين الشعبويين لا يأبهون كثيراً لمصلحة البلاد، ولاسيما أنه أعلن عن ضرورة الزحف باتجاه روما، وهذا الزحف يرتبط في أذهان الإيطاليين باستيلاء بينيتو موسوليني على الحكم عام 1922، بعد أن أعلن عن التقدم باتجاه روما.

حيال هذا الشأن، كشف رئيس تحرير مجلة “إسبريسو” السياسية الإيطالية، التي تميل إلى اليسار الليبرالي، ماركو داميلانو، لصحيفة “فيلت” الألمانية أن “هذه الأزمة العميقة والخطيرة تمسّ أعلى سلطة في البلاد، ولم يحدث ذلك منذ قيام الجمهورية”. وحذّر داميلانو، من هذا التصعيد من خلال تغريدة نشرها قال فيها: “بينما أكتب السطور الأخيرة، سمعت شخصاً بجانبي يقول: يجب أن تعود الألوية الحمراء، وتفعل به ما فعلته  بأخيه”، مؤكداً أنه يقصدون بذلك ماتاريلا. وتابع رئيس التحرير أن الدماء تجمّدت في عروقه، وخاصة بعد أن تذكر مقتل شقيق الرئيس الإيطالي، بييرسانتي ماتاريلا، في جزيرة صقلية سنة 1980، بعد أن ظلّ يقاوم عصابات المافيا لفترة طويلة حتى أردوه قتيلاً.

وتساءل داميلانو عن إمكانية سماع هذه الكلمات التي تحرّض على العنف في دول أوروبية أخرى، قائلاً: “ماذا سيحدث في حال قيلت هذه الكلمات عن ملك إسبانيا أو عن الرئيس الفرنسي أو عن الرئيس الألماني؟ بالطبع، لا يمكن تصور هذا مطلقاً؟”.