رأيصحيفة البعث

بوابة التاريخ

أحمد حسن

حين أعلن الرئيس بشار الأسد عام 2004 مشروع ربط البحار الخمسة لم يكن يبحث عن خلاص فردي لسورية وشعبها – وهذا أمر مشروع قطعاً – بقدر ما كان يبحث عن خلاص جماعي لمنطقة كاملة لا تحققه سوى مواجهة جماعية أيضاً لمشاكلها ومصاعبها عبر عملية تشبيك جريئة ومبتكرة بين شعوب عدّة يجمعها التاريخ والجغرافيا و”الثروة” والمصلحة الاستراتيجية في الآن ذاته، لتؤكد بذلك – سورية وقائدها – أنها كانت تسعى، بحق، ومنذ البداية، إلى “تصفير المشكلات”، و”الاستثمار في الديبلوماسية”، بهدف “بناء قوس سلام وتنمية يهدف إلى مواجهة قوس الأزمات الذي يرسمه أعداء المنطقة لها”.

حينها كان الأسد، وهو يقرأ عالم ما بعد السطو العلني على العراق، يحاول أن يزرع في وعي قادة المنطقة وشعوبها ضرورة التكاتف لمواجهة الآتي من، وفي، عالم تحكمه شرعة الغاب ومنطق القوة العارية والمجردة من كل شيء، وحينها أيضاً بدا أن البعض من هؤلاء “القادة!!” اقتنع بهذه الرؤية، وحينها، أيضاً وأيضاً، كانت طريق دمشق – أنقرة المفتوحة بالاتجاهين، ونحو أطراف المشروع كلهم، تبشر بإمكانية صنع أنموذج يحتذى في علاقات الجوار تفرضه الجغرافيا، وأواصر القربى، والأهم تتطلبه النظرة الاستراتيجية المستقبلية للمصالح المشتركة على مبدأ التكافؤ، لا الإلحاق، بما يضمن تشكيل نواة جامعة وجاذبة لمشروع الخير لشعوب المنطقة بأسرها.

لكن الأيام أثبتت أن “قناعة” هؤلاء كانت قناعة المضطر لا المؤمن، وحين حانت الفرصة عام 2011 انقض بعضهم كالذئاب محاولين السطو، بالتعاون والتخادم مع أصحاب منطق القوة الغاشمة ذاتهم، على سورية أولاً والمنطقة ثانياً، متخلّين، وهم يجرون وراء وهمهم بـ “أستاذية العالم”، كل ما تشدقوا به سابقاً عن “الدبلوماسية المتناغمة” و”سياسة تصفير المشاكل” و”السياسة الخارجية المتعددة البعد”، وغيرها وغيرها من كلمات كانت تخفي الكثير.

بيد أن الرياح جرت بما لا تشتهي سفنهم، وبعد عقد ونيف من السنين، وبفضل الصمود السوري أولاً وأخيراً، اكتشفوا” فجأة أنهم كانوا بذلك يسطون على مستقبل المنطقة وآمال شعوبها، وبلادهم وشعبهم ضمنها، وبالتالي “يتوجب الإقدام على خطوات متقدمة مع سورية من أجل إفساد مخططات في المنطقة”، وذلك يتم عبر “رفع مستوى الحوار السياسي، وقبول ذلك، فلا يمكن قطع الحوار السياسي أو الدبلوماسية بين الدول، حيث من الممكن أن تحدث مثل هذه الحوارات بشكل دائم وفي كل لحظة”!!.

ولأن دمشق، كما قال أديب غربي شهير منذ أقل من مائتي عام بقليل: “لا تقيس الزمن بالأيام والأشهر والسنين، وإنما بالإمبراطوريات التي شهدت نهوضها ودمارها”، ولأنها تفهم السياسة بمعناها الحقيقي، باعتبارها مجموعة مسؤوليات وحقوق وواجبات، كانت قد أبدت ومنذ عام 2012 وبعد خضات أمنية حدودية موافقتها السريعة على الطرح الروسي القاضي بتشكيل قناة اتصال بينها وبين دولة جوار شمالية بهدف “وضع آلية لمنع كل ما يمس أمن البلدين، من قذائف مجهولة المصدر، إلى تهريب معلوم المصدر والمورد، بما يضمن سيادتهما واستقلالهما معاً”، لكن رفض هذه “الجارة” حينها كان دليلاً أولاً على الانخراط في “مخططات لإفساد المنطقة” ومقدمة، ثانياً، لخراب لا يمكن لها، أو لغيرها، التنصل اليوم من تبعاته الهائلة على جميع دول المنطقة اليوم.

ولأن دمشق التي شهدت، في استعادة لأقوال ذلك الأديب مرة أخرى، “كل ما حدث على الأرض ولا تزال تحيا”، فهي لا تقيم علاقاتها مع أي دولة، بدءاً أو استئنافاً لما انقطع، إلا وفق ثوابت راسخة تتمثل باحترام سلامة وسيادة الدول وفق الشرعة الدولية التي تبنتها الأمم المتحدة وتجاوزها الكثيرون.

لذلك، فإن تلك المدينة التي “لن تموت أبداً” لا تأمل سوى بأبنائها ولو كانت تشجع أيضاً، ودائماً، جهوداً دولية لـ “إرشاد بعض الأنظمة إلى نقطة السلام”.. وإلى شارعها المستقيم باعتباره بوابة التاريخ التي أطلَّت منها “على العظام النخرة لآلاف الإمبراطوريات، وستطلُّ على قبورِ آلافٍ أخرى توشك على الموت”.