مجلة البعث الأسبوعية

كما في سورية…. سقطت الدعاية الحربية في أوكرانيا

البعث الأسبوعية-هيفاء علي

إن كيفية التلاعب بالحقيقة ليس فقط ظاهرة يومية، بل هو عنصر أساسي في الحرب بالوكالة التي يشنها الغرب في أوكرانيا، وقبلها في سورية والعراق وليبيا واليمن، وحتى قبل ذلك في يوغسلافيا السابقة التي شن الناتو عدوانه عليها بناء على معلومات وأخبار مضللة ومقاطع فيديو مفبركة، أدى في النهاية إلى تدمير البلاد وتقسيمها.

آلة “البروباغندا” الإعلامية الغربية تعمل على قدم وساق عند الحاجة، وتدفع الصحفيين والمعلقين، ومن يسمون الناشطين الحقوقيين او السياسيين، والأفراد العاديين إلى تكثيف جهودهم ليس من أجل قول الحقيقة، وإنما من أجل فبركة الأحداث وحجب الحقائق، تماماً كما فعلوا في سورية. ففي حالة أوكرانيا، سارع هؤلاء إلى دعم أوكرانيا، لكنهم بدؤوا يجدون صعوبة متزايدة في تجاهل الحقائق المزعجة حول نظام زيلينسكي وجيشه، وبدأت البروباغندا تفشل وتستنفد يوماً بعد يوم، لتعكس إخفاق المغامرات السياسية الخارجية المستمرة للولايات المتحدة.

 سلب القلوب والعقول

الأزمة الحالية في أوكرانيا مختلفة، حيث انكبت آلة الإعلام الموالية للغرب تزرع وتنشر معلومات مضللة، ودعاية وأخبار كاذبة على نطاق لم يسبق له مثيل من قبل، بينما تواصل الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو صراعهم بالوكالة على الأرض والجو لكسب “القلوب والعقول”، وهذا الأمر ليس بالجديد. ففي وقت مبكر من القرن التاسع عشر، كانت الحكومات تدرك أهمية سرد القصص على المستوى الوطني، وسعت بنشاط لإزالة التفاصيل التي اعتبرتها مسيئة أو غير ضرورية لشعبها، ولعل خير مثال على ذلك، تم رصده في “حرب البوير” الثانية في جنوب إفريقيا (1899-1902) التي لجأ فيها الجيش البريطاني الى سجن نساء وأطفال البوير في معسكرات اعتقال شاسعة، حيث قضى منهم 26000 بسبب الجوع وسوء المعاملة والمرض، لكن السلطات البريطانية سارعت الى إطلاق حملة إعلانية لإخفاء الرعب الحقيقي المنتشر في المعسكرات الجهنمية، وذلك من خلال التقارير الكاذبة والمقالات الصحفية، ولم تعرض وسائل الإعلام البريطانية أي صور تتعلق بتلك المعسكرات.

وبالنظر إلى أحدث الهزائم العسكرية واسعة النطاق لأمريكا في أفغانستان والعراق وسورية وليبيا، تم تصوير هذه الإخفاقات الدموية والمتهورة مرة أخرى على أنها حرب “الأخيار ضد الأشرار”، والتي وغالباً ما يتم حجب المعاناة الإنسانية التي لا حصر لها والتي ألحقتها هذه الحروب بالأبرياء.

حقيقة الأمر، الصراع الحالي في أوكرانيا ليس استثناءً، حيث يتم الترويج لرواية مماثلة مع الحقائق التاريخية حول أصل الصراع، وحيث يتم حجب الحقائق الأكثر أهمية حول أوكرانيا بشكل روتيني من قبل وسائل الإعلام الرئيسية، كما هو الحال عندما بدأت هذه الحرب، ولكن بدأ يتراجع الدعم الغربي لنظام زيلينسكي الذي بدا عديم الكفاءة، وغير قادر على قيادة البلاد، حيث يهدد تأثير العقوبات غير المدروسة ضد روسيا التماسك الاجتماعي في أوروبا وأمريكا، جنباً إلى جنب مع أزمة الطاقة العالمية. وفوق ذلك، لم تتحقق الهجمات المضادة الموعودة في الجنوب، ولم يظهر “جيش المليون رجل” الذي تبجح به زيلنسكي، ومرة ​​أخرى، لم تتراجع الصحافة الأمريكية والأوروبية التي قدمت “هذا الجيش المليوني” كحقيقة إلى الرأي العام الغربي.

لكن على عكس جهود أولئك الذين مولوا وصاغوا وبرروا هذه الحرب بالوكالة، فإن الحقيقة لا بد أن تظهر، وسيكون من المستحيل “إدارة” المد المتصاعد للواقع الذي يتدفق من أوكرانيا، بينما تعيد القوى الغربية التركيز على قضاياها الداخلية هذا الشتاء، وبالتالي قد يصبح زيلينسكي نفسه كبش فداء لهروب الناتو الفاشل في أوكرانيا.

بروباغندا الحرب على سورية

تجلت الحرب الاعلامية ضد سورية بأقوى صورها والتي وصلت حد الهيستريا عندما فشلت وسقطت أمام صمود وتماسك الدولة السورية، وتضحيات الجيش العربي السوري الذي حارب الإرهاب العالمي نيابة عن العالم برمته. وكما حدث ويحدث في أوكرانيا، فقد جندت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وسائل إعلامها لبث الأخبار الكاذبة، ونشر مقاطع الفيديو المفبركة لإيهام الرأي العام العالمي أن ما يجري في سورية هو ” ثورة شعب وطلاب حرية”، فيما وظفت من أسمتهم ” شهود عيان ونشطاء سياسيون أو حقوقيون” للحديث عما يجري على الأرض وهم خارج هذه الأرض، وللتحدث باسم الشعب السوري، حتى بات من هب ودب يتحدث باسم الشعب السوري.

ورغم الدعم المالي الهائل لهذه الحملة الإعلامية، إلا أنها فشلت، عندما بدأ صحفيون وكتاب غربيون مستقلون يكشفون النقاب عن حقيقة هذه الحرب التي لم تكن يوماً حرباً داخلية، وإنما حرب كونية شرسة بالوكالة شنتها الدول الغربية باستخدام أدواتها في الداخل وأزلامها في بعض الدول العربية، واستقدام المرتزقة من كافة أرجاء العالم لتدمير الدولة السورية، وقتل وتشريد الشعب السوري. الأموال التي أغدقت – في نهاية المطاف أخفقت- لشن هذه الحرب كانت تكفي لبناء مدن بأكملها، لأن الحقيقة بدأت تتكشف عندما تم نشر العشرات من المقالات، والتحليلات السياسية لصحفيين غربيين مستقلين، تفضح كل من خطط ونفذ هذه الحرب،  ومن بينها مقال نشر عام 2020، يتحدث عن وثائق مسربة تكشف النقاب عن دور الحكومات الغربية، وتحديداً، دور الحكومة البريطانية في التضليل الإعلامي حول الحرب على السورية، وتذكر بالدور القيادي الذي أدته الدول الغربية وشركاتها الحربية في التدمير الممنهج للبلاد.

لقد فضحت تلك الوثائق شركات إعلانية ووسائل إعلام غربية تمّ تشكيلها من قبل الاستخبارات الغربية، التي عملت بتوجيه وتمويل من الحكومة البريطانية ومن الحكومات الأخرى. وتتألف العملية من تشكيل “منظمات مستقلة” على شاكلة “الخوذ البيضاء”، التي إنكشف أمرها وزيفها، أو المراسلين الزائفين الذين يزوّدون الصحافة الغربية بمعلومات ملفقة من المخابرات البريطانية، وتتوافق مع ما تمّ الكشف عنه لسنوات عديدة.

وبالفعل، قامت شركات استخبارات مموّلة من الحكومة البريطانية بتدريب متزعمي ما يسمى “المعارضات” السورية، ونشرت قصصاً في وسائل الإعلام مثل الـ”بي بي سي” و”قناة الجزيرة”، وتلاعبت بمجموعة من الصحفيين. كما أظهرت الوثائق المسرّبة كيف طوّرت الشركات الحكومية البريطانية بنية تحتية دعائية متقدمة لتعزيز الدعم في الغرب لما تسميه المعارضة السياسية والعسكرية في سورية، وبالتالي، كشفت الملفات المسرّبة كيف لعبت المخابرات الغربية دور الإعلام، وسلّطت الضوء بعناية على التغطية الإعلامية باللغتين الإنكليزية والعربية للحرب على سورية من أجل حشد تدفق مستمر من التغطية المؤيدة  لما يسمى ” المعارضة”.

ولهذا الغرض قام رواد الأعمال الأمريكيون والأوروبيون بتدريب وتقديم المشورة لمتزعمي “المعارضة” على جميع المستويات، من نشطاء الإعلام الشباب إلى رؤساء الحكومات الموازية في المنفى، كما نظّمت هذه الشركات مقابلات مع متزعمي “المعارضة” السورية على وسائل الإعلام الرئيسية مثل “بي بي سي،” و “القناة الرابعة” البريطانية.

لم تؤثر شركات العلاقات العامة التابعة لحكومة المملكة المتحدة على الطريقة التي غطّت بها وسائل الإعلام الأزمة في سورية فحسب، بل أنتجت أخباراً زائفة وملفقة خاصة بهم ليتمّ بثها على شبكات التلفزيون الرئيسية في الشرق الأوسط، بما في ذلك “بي بي سي” العربية، و”الجزيرة”، و”العربية”، و”تلفزيون أورينت”، حيث عملت هذه الشركات المموّلة من المملكة المتحدة كخدمات علاقات عامة بدوام كامل لما يسمّى “المعارضة المسلحة”، التي يهيمن عليها المتطرفون. وهنا تشير الوثائق المسرّبة إلى أكبر شركة نفّذت هذه المهمة وهي شركة “أرك” المتعاقدة مع الحكومتين البريطانية والأمريكية، والتي أعدّت استراتيجية “لإعادة تصنيف” المعارضة السلفية الإرهابية المسلحة في سورية بغية “تجميل صورتها”.

وفي السياق عينه، كشف تسريب لتقرير وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث في المملكة المتحدة عام 2014 عن عملية مشتركة مع وزارة الدفاع، ووزارة التنمية الدولية لدعم الاتصالات الإستراتيجية، والبحث والرصد، والتقييم، والدعم التشغيلي لكيانات ما يسمى “المعارضة السورية”، وأوضحت مؤسسة ” فوكس” البريطانية أن هذه الحملة تهدف إلى إنشاء روابط شبكية بين الحركات السياسية ووسائل الإعلام، من خلال بناء منصات إعلامية محلية مستقلة. كما خطّطت حكومة المملكة المتحدة لـ التوجيه والتدريب لتحسين تقديم الخدمات الإعلامية، بما في ذلك الوسائط الرقمية والاجتماعية. وكان هدفها هو توفير المدربين في العلاقات العامة وإدارة وسائل الإعلام، وكذلك توفير الموظفين التقنيين، مثل المصوّرين ومشرفي المواقع والمترجمين الفوريين، وكذلك إنتاج الخطب والبيانات الصحفية، واتصالات أخرى مع وسائل الإعلام، إضافة إلى اختيار وتدريب ودعم ما يسمى  “النشطاء” السوريين الذين شاركوا رؤية بريطانيا.

يقع مقر “أرك” في دبي، وكانت تقدم نفسها على أنها منظمة غير حكومية إنسانية، مدعيةً أن الهدف من إنشائها هو مساعدة الفئات الأكثر ضعفاً من خلال إنشاء مؤسسة اجتماعيه، وتمكين المجتمعات المحلية من خلال توفير تدخلات مرنة ومستدامة لخلق قدر أكبر من الاستقرار والفرص والأمل في المستقبل، في حين أن شركة “أرك” ما هي سوى وكالة استخبارات يتمّ دمج وظائفها في التدخلات الغربية المسلحة، وتتفاخر بالإشراف على عقود بقيمة 66 مليون دولار لدعم “المعارضة” في سورية. وبحسب ما ورد كان لدى الشركة عملاء على الأرض داخل سورية، حيث أبلغت وزارة الخارجية البريطانية أن عملاء “أرك” على اتصال منتظم مع نشطاء وممثلين من المجتمع المدني إلتقيا لأول مرة خلال ربيع 2011.

كما أنشأت “مركز بناء القدرات” في غازي عنتاب جنوب تركيا، وكانت قاعدة استخباراتية للعمليات ضد الحكومة السورية، حيث لعبت دوراً مركزياً في تشكيل خطاب المعارضة السياسيّة السورية، وقامت بتدريب جميع مستويات “المعارضة” في مجال الاتصالات، ونظّمت ورشات عمل حول صحافة المواطن مع نشطاء إعلاميين سوريين، وأنشأت حملة علاقات عامة معقدة من أجل توفير مركز القيادة العسكرية لتمييز نفسه عن جماعات المعارضة المسلحة المتطرفة، ولإرساء صورة فيلق عسكري وظيفي وشامل ومنضبط ومهني، وقد اعترفت بأنها سعت إلى تبييض وتجميل صورة المعارضة المسلحة، التي يسيطر عليها السلفيون الإرهابيون.

لقد أغرقت الشركة سورية بالدعاية المعارضة، وفي غضون ستة أشهر فقط، قامت بتوزيع 668.600 من إنتاجها المطبوع داخل سورية، بما في ذلك الملصقات والنشرات وكتيبات المعلومات وكتب الأنشطة وغير ذلك. كما أنها أشرفت على وسائل الإعلام التالية داخل سورية: 97 قناة فيديو، و23 كاتباً، و49 منشوراً، و23  مصوراً، و19 مدرباً في البلاد، وثمانية مراكز تدريب، وثلاثة مكاتب إعلامية، و32 مسؤول أبحاث، وكان لديها اتصالات ثابتة مع بعض وسائل الإعلام الرئيسية في العالم مثل “رويترز”، و”نيويورك تايمز”، و”سي إن إن”، و”بي بي سي”، و”الغارديان”، و”فايننشال تايمز”، و” التايمز”، و”الجزيرة”، و”سكاي نيوز عربية”، و”أورينت تي في”، و”العربية”.

برنامج  لخلق نشطاء إعلاميين

تمّ تنظيم الحرب الإعلامية للمعارضة السورية كجزء من مشروع  ما يُسمّى “بسمة”، فقد عملت “أرك” مع متعاقدين حكوميين غربيين من خلال هذا المشروع لتدريب نشطاء ما يسمى المعارضة السورية، وبفضل التمويل المقدّم من حكومتي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أصبح المشروع منصة مؤثرة للغاية، حيث بلغ عدد المشتركين في صفحتها العربية على فيسبوك أكثر من 500000 مشترك، كما كان لها عدد كبير من المتابعين على موقع يوتيوب.

لقد صوّرت وسائل الإعلام السائدة في الشركات هذا المشروع بشكل مخادع على أنها منصة صحافة المواطن السوري، أو مجموعة المجتمع المدني، وهي إنتقال تدريجي وتحرري إلى سورية الجديدة. لكن في الواقع، كانت عملية حكومية غربية لخلق دعاية معارضة، حيث تمّ تدريب تسعة من المراسلين الستة عشر الذين استخدمتهم قناة “الجزيرة” في سورية من خلال المشروع الحكومي الأمريكي- البريطاني، وفي دوراتها التدريبية قامت “أرك” بتدريب المتحدثين الرسميين المعارضين، وعلمتهم كيفية التحدث إلى الصحافة، ثم ساعدتهم في تنظيم مقابلات مع وسائل الإعلام التقليدية العربية والإنكليزية.

التنسيق مع المنظمات الإرهابية

سلطت الوثائق المسرّبة مزيداً من الضوء على مقاول حكومي بريطاني يدعى “ألباني”، حيث تفاخر “ألباني” بأنه أشرك شبكة واسعة من أكثر من 55 مراسلاً وصحفياً ومصور فيديو للتأثير على الروايات الإعلامية، وتعزيز مصالح السياسة الخارجية للمملكة المتحدة.

لقد ساعدت الشركة في تكوين فريق إعلامي معارض سوري يُسمّى “عنب بلدي”، تأسّس في عام 2011 في مركز داريا مع بداية الحرب، وتمّ تسويق “عنب بلدي” بقوة في الصحافة الغربية كمنظمة إعلامية سورية شعبية.

نسق “ألباني” أيضاً الاتصالات بين وسائل الإعلام المعارضة، والجماعات الإرهابية المتطرفة من خلال تعيين زعيم مشارك (لديه) مصداقية عميقة مع المجموعات الرئيسية، بما في ذلك “فيلق الشام”، و”الجبهة الشامية”، و”جيش إدلب الحر”، و”أحرار الشام”، و”جيش الإسلام”، و”فيلق الرحمن”، و”جيش التحرير”. كما حذّر “ألباني” من أن الكشف عن تمويل الحكومة الغربية لهذه المنظمات الإعلامية المعارضة، والتي تمّ الترويج لها على أنها مبادرات شعبية، من شأنه أن يضعف مصداقيتها، وفي نهاية الأمر تم حذف موقع “بسمة”.