الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نوافذ 71

عبد الكريم النّاعم

رُوي عن الرسول صلوات الله عليه وآله أنّه قال: “النّاسُ أشْبهُ بأزمانهم منهم بآبائهم”، في هذا القول المُكثَّف دلالة عميقة على أثر التحوّلات الاجتماعيّة في تنشئة الناس، وفي تربيتهم، ممّا يعني أنّ على القيّمين على شؤون العباد أن يولوا تشكيل الأزمنة تشكيلاً فاضلاً وعادلاً، لَما في ذلك من تأثير في التحوّل الاجتماعي، وهذا يشمل النواحي الماديّة والمعنويّة، كما يعني أنّ الأزمنة الرديئة سوف تُنتج، حكُماً، أجيالاً تحمل خصائص تلك الرداءات، ولا يخفى ما في ذلك من تأثير في مستقبل الأمّة ككلّ، وهذا يشمل المجالات التربويّة، والثقافية، والاجتماعيّة.

*****

مرّ السيّد المسيح عليه السلام بقومٍ يبكون، فقال: “ما لهم يبكون”؟!! قالوا: “يخافون ذنوبهم”، فقال: “اتركوها يُغفرْ لكم”، وهذا قول آخر يدلّ على أنّ أهداف الرسالات السماويّة، على تعدّدها، هي أن ترسم الطريق للناس لاختيار الأفضل، والنّزوع إلى السموّ الذي يتحققّ عبره تفتّح الذات الإنسانيّة، وفيه إضافة إلى ذلك الإشارة إلى أنّ النّدب، والنّدم وحده لا يكفي، بل لا بدّ من اختيار طريق آخر أكثر جدوى، وهو الخروج من حالة السّلب إلى حالة الإيجاب والفاعليّة، وأنْ لا يتجمّد الإنسان عند حدود البكاء على الذات، أو على الأطلال، أيّاً كانت، وأنْ يخرج من حدود العجز إلى فضاءات تحويل المحنة إلى منحة.

*****

جاء في الأثر: “إذا أراد الله بعبدٍ خيراً آنسَه بالوحدة”، أي أن يكون منعزلاً، وإذا لاح أنّ ذلك قد ينفع في الخيارات الفرديّة، الشديدة الخصوصيّة، فإنّه يتناقض جوهريّاً مع جوهر الرسالات السماويّة التي جعلت من مهامّها تحويل المجتمعات جذريّاً بما فيه صالح الفرد والجماعة، وأرجّح أنّ هذا القول قد جاء في أزمنة انكفاء الأمّة، وعجزها عن لعب دورها الإنساني، إنْ على مستوى مجتمعها أو على مستوى المجتمعات الإنسانيّة، وهو الزمن الذي كثُرت فيه الطُّرق الصوفيّة بصيَغها الانسحابيّة، كتعبير خامل عن رفض مُضمَر، لأنّ المجتمعات لا تُبنى بالانسحاب، ولا بالخلاص الفردي، ولا بالتسويغات التي لا يقتنع بها حتى قائلُها.

*****

قال أعشى بني شيبان:

وَفَضّلَني في القول والشعر أنّني

أقول بما أهوى، وأعرف ما أعني

استوقفني هذا البيت من الشعر، واستحضر بصورة آلية حالة الكثير ممّن نقرأ لهم ما نقرأ من كتابات يصنّفونها في خانة الشعر، فهل يعرفون ما يقولون؟، أم أنّ الاحتماء بمقولة ليس على الشاعر أن يشرح ما يكتبه، وكأنّ مَن كتبه إنسان آخر، فهل يقولون بما يهوون، ويعرفون ما يعنون، أم أنّ الفوضى الضّاربة الأطناب تسمح لهم بالتسلّل إلى المواقع المفتوحة التي لا رقابة فيها، ولا تقييم حقيقّياً، وإذا كان هذا الآن يبدو عابراً، فإنّه سوف يترسّخ بحكم الاستمرار، وبحكم أنّ العُملة الفاسدة تطرد العملة الصحيحة، كما هو جارٍ، وعلى مختلف الأصعدة!!.

*****

الذّهبُ، بصورته المعروفة، وبرمزيّة تحوّلات حضوره، كان الحصول عليه من أهمّ دوافع الصراعات الفرديّة والاجتماعيّة، والمشكلة فيه أنّ مُحبّه لا يشبع، وقد قال في ذلك الإمام عليّ (ع): “منهومان لا يشبعان طالب علم، وطالب مال”، وكم من شواسع لا تُقطَع بين طالب العلم وطالب المال، فطالب العلم لا يسطو على أحد من أجل الحصول عليه، بل تكفيه مجالسة أهل العلم، والقراءات التي ترفده في ذلك، أمّا طالب المال فإنّه مستعدّ لقتل كلّ مَن يقف في وجه مطامعه، وكم سمعنا عمّن قتل أباه، أو أخاه، أو جاره، أو حتى مَن لا يعرف من أجل ذلك!!.

قيل لحكيم: “هل تعرف أجلّ من الذهب”؟ قال: “نعم، المُستغني عنه..”.

aaalnaem@gmail.com