الانتخابات والاستئناس: المهام المؤقّتة والمستدامة
تكاد الانتخابات تكون ملازمة للمؤسّساتية الحزبيّة بالرغم من أن غير قليل من الأحزاب ينأى بنفسه عن أن يوصف بأنه انتخابي كهدف، وإنما كوسيلة… وفي هذا الميدان كثُرت وأثمرت الكتابة والممارسة في الديمقراطيّة، والمركزيّة الديمقراطيّة… حتى وصلنا إلى مصطلح: الاستئناس.
في حزب البعث العربي الاشتراكي نظريّة وممارسة تجربة غنيّة ومتنوّعة في هذا المجال جديرة بالاحترام من جهة، وبالمراجعة النقدية من جهة ثانية خاصة في هذه الأيام التي تنوس فيها مؤسّساته وكوادره بين جدوى فقدان المادة الثامنة في الدستور السابق استجابة للحوار الوطني والحل السياسي، والتوق عند كثيرين إلى عودتها، وذلك لأسباب لا ضرر في بحثها.
فهناك من يرى اليوم في هذا الحزب، وفي غيره، أن الانتخابات مهمّة مؤقتة، بينما حاجة الحزب والمجتمع والدولة ماسّة إلى مهام مستدامة عديدة منها دور الحزب الاجتماعي والسياسي والثقافي من حيث: الوعي والهويّة والانتماء والوحدة الوطنية، وهذه أمور قد تتأذّى بالتحضير للانتخابات وبمفرزاتها، إضافة إلى إشكالية علاقة الحزب بمؤسّسات الحكم التي سيصل إليها عن طريق الانتخابات.
اليوم يقول البعثيون، وغيرهم، إن الانتخابات والاستئناس المرافق للاستحقاقات الدستورية الديمقراطية هما المظهر الأكبر الذي يتجلّى فيه حضور الحزب كضرورة وحاجة، وبعد نتائج هذه الاستحقاقات تخفت حتى لتكاد تغيب هذه الضرورة والحاجة، انتظاراً لموسم جديد.
في هذا السياق ينبغي التفريق بين المهام الحزبيّة المؤقّتة، والمهام المستدامة إذ إن الأخيرة هي الأهم وهي التي تسبغ على الأولى موضوعيّتها ووطنيّتها وسلامتها وجدواها… والحديث هنا ذو شجون ولا سيما حين نجد غير قليل ممن يرى السلامة في المركزيّة – التعيين، أكثر من الديمقراطيّة – الانتخابات وهذا ليس في البعث وحده، بل هناك قناعة يتسع مداها بأن نتائج صناديق الاقتراع هي المعبّر الأضعف عن الوعي الديمقراطي، والضرورة الوطنيّة.
لا شك أنّ في الانتخابات تتجلّى حيوية الحزب، وفيها لا يستسلم الخاسر لخسارته طويلاً، لكن هذا ليس أهم من العمل على تطوير استرتيجيات الحزب على المدى الطويل كمهمة مستدامة، بما يعزّز ثقة الجمهور بالحزب السياسي باعتباره مؤسّسة للتمثيل من جهة، ولممارسة الحكم من جهة ثانية، إضافة إلى الاهتمام والتخطيط لما يحمله الغد من تطورات وتغيّرات سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة واقتصاديّة محليّة وإقليميّة وعالميّة.
هذا التطوير للاستراتيجيات، بما يرافقه من إعادة النظر في الوسائل والأهداف ليس خروجاً عن المبادىء والثوابت والعقائد، فهناك اليوم في العالم عدد كبير من الأحزاب في آسيا وأوروبا وإفريقيا وأمريكا تجاوز عمره المئة عام خاصة في الدول والأمم الكبرى والتي لم تشهد انفجاراً حزبياً:
مثلاً حزب المؤتمر الوطني الهندي تأسس عام 1858م والديمقراطي الأمريكي 1828م، والمحافظين البريطاني 1832م، والجمهوري الأمريكي 1854م، والعمال البريطاني 1900م، والمؤتمر الوطني الإفريقي 1912م، وكذلك الشيوعي السوفييتي، والشيوعي الصيني 1921م.
وهذه الأحزاب وكثير غيرها تمكّنت من إعادة بناء مؤسّساتها التنظيمية واستراتيجيّاتها الفكريّة لتتمكن من أن تتطوّر وتصبح مستدامة دون أن تدخل في طور الذبول والموات، فعملت على إيجاد طرق جديدة لتمثيل الأجيال الطالعة واستقطابها ومكّنتها من أن تكون حصينة أمام مفرزات التكنولوجيا الجديدة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تشكّل اليوم تحدّياً جديداً ومستداماً أمام الأحزاب التي لا ترى ضرورة ملحّة في تغيير أو تطوير أساليبها وأدواتها وأهدافها.. مع الأخذ بالحسبان والاعتبار والتفكير لماذا يطرح الرئيس بوتين رئيس حزب روسيا الموحّدة قضايا نضالية أممية كاد يغفلها سابقاً بعض الأمناء العامين للحزب الشيوعي السوفييتي، كحديثه عن تحدي: النازيّة – الامبرياليّة – النيوليبراليّّة – الهيمنة وأحاديّة القطب… إلخ !؟.
على أيّة حال، الحياة الحزبيّة في العالم اليوم تتغيّر، وتشهد جديداً لكن ليس متسارعاً، بل هناك حذر ودقّة، وبُعد عن العبث بها لما للأحزاب من مهام ضبطيّة لا يمكن القفز فوقها لا في الشارع ولا في المجتمع ولا في الدولة، ولما لها من قدرة على تشكيل منَعة وضمانة وأمن وأمان إذا ما عُبث بها وانتصر العابثون ضاعت المجتمعات والأوطان، والحقوق والواجبات في زمن خلقت فيه المركزيّة الغربيّة الثورات الملوّنة، والمشهد الاحتجاجي الذي يؤجّج نيرانه الرعاعُ والأقلام والذّمم المأجورة ومرتزقة الإرهاب العابر والجوّال، وهذا جميعه ما صمد حزبنا وشعبنا في وجهه ودحره إلى حد كبير.
والأحزاب اليوم مضطرة في مهامها المؤقّتة والمستدامة أن تستلهم التصاق الحياة الحزبيّة المعاصرة بالاستجابة لتحديات: الهويّة – الوطنيّة – القوميّة – البراغماتيّة – الرقميّة والميديا – والأهم تأطير أجيال المستقبل. وهذا ما لا يمكن للشعبويّة أن تنهض به، فلا ضير في أن يكون للطليعة والنخبة دور نهضوي رائد، فمراكز دعم القرار، والأبحاث والدراسات ليست جماهيريّة وإن انحازت إلى الجماهير.
والحقيقة: الهمّ في الأحزاب اليوم هو أكبر من نتائج الانتخابات، وهذا ما سيدركه حزبُنا في المرجو من تجربة الإدارة المحليّة للمرحلة القادمة إذ أن النجاح في الانتخابات يجب أن يُفضي وجدانياً إلى النجاح في العمل والعكس صحيح، وبهذا تصبح المهمة المؤقتة مستدامة.