مجلة البعث الأسبوعية

الصين في استراتيجية الناتو 2030 البيروقراطية العسكرية في مواجهة التحولات الاقتصادية.. والولاءات الإيديولوجية نحو الشرق

البعث الأسبوعية عناية ناصر

يثير الموقف الجديد لحلف الناتو تجاه بكين التساؤلات حول ادعاءه الكامل بأنه تحالف “دفاعي”، وكما يقول المثل “إذا كانت الأداة الوحيدة التي تمتلكها هي المطرقة، فستنظر لكل مشكلة وكأنها مسمار”.

لدى الغرب منظمة حلف شمال الأطلسي “الناتو” الذي أعلن عن نفسه على أنه تحالف عسكري “دفاعي”، وبناءً على ذلك فإن أي دولة ترفض إملاءاته يجب أن تكون، بحكم التعريف، تهديداً عسكرياً هجومياً، وهذا جزء من سبب إصدار الناتو لوثيقة ما يسمى بـ  “المفهوم الاستراتيجي” الجديدة في قمته الأخيرة التي جرت في مدريد، معلناً فيها ولأول مرة أن الصين تشكل “تحدياً منهجياً” للحلف، إلى جانب “تهديد” أساسي من روسيا.

تعتبر بكين أن هذا التوصيف الجديد من قبل الناتو هو تكرار لنهج الحلف التصاعدي تجاه موسكو على مدى العقد الماضي، حيث دعا الناتو في نسخة الوثيقة السابقة، الصادرة في 2010، إلى “شراكة إستراتيجية حقيقية” مع روسيا. ووفقاً لتقرير نشر في صحيفة “نيويورك تايمز”، وجدت  الصين نفسها مُصنفة علناً على أنها “تهديد”، وسعى العديد من الحلفاء الأوروبيين ومن بينهم ألمانيا، اللتان تربطهما علاقات اقتصادية وتجارية وثيقة مع الصين، إلى اتخاذ موقف معتدل في صياغة الوثيقة، تجنباً للإضرار بروابطهم التجارية والتكنولوجية مع الصين. ورداً على ذلك، اتهمت بكين الناتو “بمهاجمة وتشويه سمعة الصين”، وحذرت من أن التحالف “يثير المواجهة”، كما تعتقد بكين أن الناتو قد ابتعد كثيراً عن مجال مهمته “الدفاعية” المفترضة”.

تأسس الناتو في أعقاب الحرب العالمية الثانية بشكل صريح كحصن ضد التوسع السوفييتي في أوروبا الغربية، وكانت الحرب الباردة التي تلت ذلك في الأساس معركة إقليمية وأيديولوجية من أجل مستقبل أوروبا مع التهديد المتبادل الدائم بالإبادة النووية. إذن كيف يمكن لبكين، وفي تبرير منطقي، التي تقع على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، أن تنسجم مع مهمة الناتو “الدفاعية” التاريخية؟ وكيف أصبحت القوات أو الصواريخ الصينية تهدد الآن أوروبا أو الولايات المتحدة بطرق لم تكن كذلك من قبل؟ وكيف أصبح الأمريكيون أو الأوروبيون فجأة تحت تهديد الغزو العسكري من قبل الصين؟.

اختلاق الأعداء

يرى منطق الناتو الحالي شيئاً من قبيل أن الحرب الروسية الأوكرانية التي حدثت في شباط الماضي هي دليل على أن الكرملين لديه طموحات لإعادة إنشاء إمبراطوريته السوفيتية السابقة في أوروبا، وأن الصين تعمل على زيادة قوتها العسكرية، ولديها خطط إمبراطورية مماثلة تجاه دولة تايوان الانفصالية، وكذلك جزر المحيط الهادئ الغربية. ولأن بكين وموسكو تعززان علاقاتهما الاستراتيجية في مواجهة المعارضة الغربية، افترض الناتو أن هدفهما المشترك هو تدمير الحضارة الغربي،  أو كما أعلن بيان وثيقة الناتو الأخير: “إن تعميق الشراكة الاستراتيجية بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد السوفييتي ومحاولاتهما المتضافرة لتقويض النظام الدولي القائم على القواعد تتعارض مع قيمنا ومصالحنا”. لكن إذا كان أي شخص يقوم بتخريب “النظام الدولي القائم على القواعد”، وهو معيار يستدعيه الغرب بانتظام ولكنه لا يحدده أبداً، فإنه يبدو أن الناتو نفسه، أو الولايات المتحدة باعتبارها اليد التي تستخدم مطرقة الناتو، وهذه بالتأكيد هي الطريقة التي ينظر بها إلى بكين. وفي ردها قالت الصين: “بعد ثلاثين عاماً على نهاية الحرب الباردة، لم يتخل الناتو بعد عن تفكيره وممارساته بخلق الأعداء… إن الناتو هو الذي يخلق المشاكل ويثير الفوضى في جميع أنحاء العالم”.

لدى الصين وجهة نظر والتي ترى فيها إن المشكلة هي مشكلة بيروقراطيات – وحلف الناتو هو أكبر بيروقراطية عسكرية في العالم – تتمثل في أنها تطور بسرعة التزاماً مؤسسياً مهيمناً لضمان وجودها الدائم، إن لم يكن التوسع. وبذلك  تصبح البيروقراطية بطبيعة الحال جماعات ضغط قوية من أجل الحفاظ على نفسها، حتى بعدما تكون فد انتهت فائدتها.

إذا لم يكن هناك تهديد “للدفاع” ضده، فيجب خلق التهديد، وهذا يمكن أن يعني أحد أمرين: إما اختلاق تهديد وهمي، أو إثارة التهديد الذي صممت البيروقراطية لتفاديه أو إحباطه، و تشير الدلائل إلى أن الناتو، الذي يضم الآن 30 دولة يقوم بالأمرين معاً.

كان يتوجب على الناتو أن يحل نفسه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في عام 1991، ولكن وبعد ثلاثة عقود أصبح أكبر وأكثر تعطشاً وتوحشاً للحصول على الموارد أكثر من أي وقت مضى. وخلافاً لكل النصائح، وفي انتهاك لوعوده، رفض الناتو الحفاظ على “حاجز أمني” محايد بينه وبين روسيا. وبدلاً من ذلك، كان يتوسع حتى حدود روسيا، بما في ذلك الزحف الخفي إلى أوكرانيا، البوابة التي غزت من خلالها الجيوش روسيا تاريخياً.

تحالف هجومي

من الواضح أن مزاعم الناتو أن روسيا تشكل تهديداً حقيقياً لوحدة أراضي جارتها أوكرانيا، وأن لروسيا طموحات كبيرة في توسيع نفوذها العسكري، وتحويل انتباهها نحو بولندا أو دول البلطيق، أو نحو آخر المنضمين إلى الناتو السويد وفنلندا، ستخاطر بحدوث مواجهة نووية، وربما هذا هو السبب في أن الجماهير الغربية تسمع الكثير من قبل السياسيين ووسائل الإعلام عن التجييش ضد روسيا والرئيس بوتين، إلا أنه يبدو أن ادعاء “الإمبريالية الروسية” المتفشية والمتجددة لا يستند إلى أي واقع واضح، لكنها طريقة فعالة للغاية بالنسبة للبيروقراطيين في الناتو لتبرير توسيع ميزانياتهم وسلطتهم، كما أن صناعات الأسلحة التي تتغذى على الناتو والمتجذرة في العواصم الغربية تزيد أرباحهم بشكل كبير.

إن الانطباع بأن ذلك ربما كان مخطط الناتو للتعامل مع موسكو لا يتم تأكيده إلا من خلال الطريقة التي يتعامل بها مع الصين الآن مع بتبريرات أقل. فمن وجهة نظره لم تغزو الصين مؤخراً أي أراضي ذات سيادة، على عكس الولايات المتحدة وحلفائها، في حين أن المنطقة الوحيدة التي قد تهددها- تايوان – تقع على بعد حوالي 12000 كيلومتر من البر الرئيسي للولايات المتحدة، ومسافة طويلة بالمثل من معظم أوروبا. والحجة القائلة بأن الجيش الروسي قد يهزم أوكرانيا ثم يوجه انتباهه إلى بولندا وفنلندا يتوافق مع هذا النوع  من الاحتمال الجغرافي، مهما كان بعيداً. لكن الفكرة القائلة بأن الصين قد تغزو تايوان ثم توجه قوتها العسكرية نحو كاليفورنيا وإيطاليا هي محض وهم وغير منطقية.

إذن، إن الموقف الجديد للناتو تجاه بكين يثير الشكوك حول التوصيف الكامل لتحالف يزعم أنه دفاعي، ليبدو كثيراً أنه تحالف هجومي.

الخطوط الحمراء الروسية

من الجدير بالملاحظة أن الناتو دعا إلى القمة لأول مرة أربع دول من منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهي  أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية، ما يعني إن محاولة إنشاء مجموعة “آسيا والمحيط الهادئ الأربعة” المتحالفة مع الناتو تهدف بلا شك إلى اقتراح أوجه تشابه بين بكين وبين التجنيد التدريجي لحلف الناتو لدول أوروبا الشرقية بدءاً من أواخر التسعينيات، والتي بلغت ذروتها في مغازلة أوكرانيا وجورجيا مؤخراً. لكن في النهاية، أدت مغازلة الناتو لجيران روسيا إلى القيام بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا لتأمين أمن روسيا ومواطنيها والدفاع عن سكان دونباس من الإبادة الجماعية.

هل يمكن أن يكون القصد من وراء التطورات المماثلة في “آسيا والمحيط الهادئ الأربعة” هو استفزاز بكين لاتخاذ موقف عسكري من أجل تبرير توسع الناتو بعيداً عن شمال الأطلسي بدعوى أن العالم بأسره هو ساحته الخلفية؟. هناك بالفعل إشارات واضحة على ذلك، ففي أيار الماضي تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن الولايات المتحدة – وضمنياً الناتو – ستقدم المساعدة العسكرية لتايوان إذا تعرضت للهجوم، وتُعتبر تايوان الواقعة على بعد 200 كيلومتر من سواحلها أراض صينية. وبالمثل، دعت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس دول الناتو إلى شحن أسلحة متطورة إلى تايوان بنفس الطريقة التي يسلح بها الناتو أوكرانيا، لضمان أن الجزيرة لديها “القدرة الدفاعية التي تحتاجها”، مما يعكس رواية الناتو حول أهدافه في أوكرانيا، على أنه يضخ أسلحة إلى أوكرانيا “للدفاع” عن بقية أوروبا. والآن، يضع الناتو نفسه كحارس منطقة آسيا والمحيط الهادئ أيضاً.

 الإكراه الإقتصادي

في الحقيقة إن المسألة لا تتعلق فقط بالتهديدات العسكرية، فهناك قطبة إضافية من المصلحة الذاتية الغربية المخفية وراء مزاعم التحالف “الدفاعي”، فقبل أيام من قمة الناتو، أعلنت مجموعة السبع، وهي مجموعة من سبع دول صناعية تشكل جوهر حلف الناتو، عزمها جمع 600 مليار دولار للاستثمار في البلدان النامية، لكن هذه الخطوة لم تكن مدفوعة بالإيثار والخوف على تلك الدول ومصالحها، بل لأن الغرب قلق للغاية من نفوذ بكين المتزايد على المسرح العالمي من خلال مبادرة الحزام والطريق التي تبلغ قيمتها تريليون دولار، والتي تم الإعلان عنها في عام 2013، وهي تخطط في العقود المقبلة، للاستثمار في البنية التحتية لعشرات الدول النامية، وقد قامت أكثر من 140 دولة بالتوقيع على هذه المبادرة حتى الآن.

تهدف الصين من وراء هذه المبادرة  إلى جعل نفسها مركزاً  لشبكة عالمية من مشاريع البنية التحتية الجديدة – من الطرق السريعة والموانئ إلى الاتصالات السلكية واللاسلكية المتقدمة – لتعزيز روابط التجارة الاقتصادية مع إفريقيا والشرق الأوسط وروسيا وأوروبا، وفي حال نجاحها فإن الصين ستضع بصمتها الاقتصادية على العالم وهذا ما يقلق الغرب حقاً لا سيما الولايات المتحدة والبيروقراطية العسكرية لحلف الناتو، حيث قاموا بتسمية ذلك بـ”الإكراه الاقتصادي”.

وعلى هذه الخلفية، عقد رئيسا مكتب التحقيقات الفيدرالي، وجهازي المخابرات الداخلية للولايات المتحدة والمملكة المتحدة مؤتمراً صحفياً مشتركاً غير مسبوق في لندن للتحذير من أن الصين “أكبر تهديد طويل الأمد لأمننا الاقتصادي والوطني”، وأكدوا على الأولويات الغربية.

عدوان أحادي الجانب

بالعودة إلى حقبة الحرب الباردة، تعاملت الولايات المتحدة مع الدول النامية على أنها بيادق في حرب اقتصادية على الموارد التي سيتم نهبها والسيطرة على الأسواق، كما حاولت توسيع ما يسمى بـ “مجال نفوذها” على الدول الأخرى، وتأمين شريحة أكبر من ثروة الكوكب من أجل تغذية اقتصادها المحلي، وتوسيع صناعاتها العسكرية، وحينها شدد خطاب الحرب الباردة على المعركة الأيديولوجية بين الغرب والاتحاد السوفييتي السابق. تجدر الإشارة إلى أن الأحزاب الشيوعية كانت في أوائل سنوات الحرب الباردة هي الأوفر حظاً للفوز بالانتخابات في العديد من الدول الأوروبية، وهو الأمر الذي كان واضحاً بشكل كبير لواضعي مسودة معاهدة الناتو.

لقد استثمرت الولايات المتحدة بكثافة في تجارة الأسلحة، حيث تتجاوز ميزانيتها العسكرية اليوم الإنفاق المشترك للدول التسعة التالية، على وجه التحديد للدول الأفقر ذات الذراع القوية في معسكرها، ومعاقبة أولئك الذين رفضوا، و أصبحت هذه المهمة أسهل بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. واليوم في عالم أحادي القطب، كان على واشنطن أن تحدد من سيعامل كصديق، وبأي شروط، ومن هو العدو، وقد عمل الناتو بمثابة ذريعة للعدوان الأمريكي، مضيفاً بعضاً من  الشرعية متعددة الأطراف إلى نزعته العسكرية أحادية الجانب إلى حد كبير.

عبودية الديون

يتألف “النظام الدولي القائم على القواعد” من مجموعة من المؤسسات الاقتصادية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتي تملي شروطاً قمعية على البلدان الفقيرة المستاءة بشكل متزايد – غالباً المستعمرات الغربية السابقة – والتي بحاجة ماسة للاستثمار، وانتهى الأمر بمعظمها أسيرة الديون الدائمة. في المقابل، تقدم الصين لهم بديلاً، وهي في هذه العملية تهدد بتآكل الهيمنة الاقتصادية الأمريكية تدريجياً. كما إن قدرة روسيا الواضحة على الإفلات من العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب، وارتداد تلك العقوبات على الاقتصادات الغربية، تؤكد على هشاشة تفوق واشنطن الاقتصادي.

بشكل عام، تفقد واشنطن قبضتها على النظام العالمي، وتستعد مجموعة “البريكس” المنافسة – البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا – للتوسع من خلال ضم إيران والأرجنتين في كتلة نفوذها، وتسعى كل من روسيا والصين، اللتين أجبرهما عداء الناتو على الدخول في تحالف أعمق ، إلى قلب نظام التجارة الدولية من خلال فصله عن الدولار الأمريكي، وهو الركيزة الأساسية لمكانة واشنطن المهيمنة.

تؤكد وثيقة “الناتو 2030” التي صدرت مؤخراً على أهمية بقاء الناتو “مستعداً وقوياً وموحداً لعصر جديد من المنافسة العالمية المتزايدة”، حيث أدرجت الرؤية الإستراتيجية الأخيرة للناتو الصين على أنها تسعى “للسيطرة على القطاعات التكنولوجية والصناعية الرئيسية، والبنية التحتية الحيوية، والمواد الإستراتيجية وسلاسل التوريد”. وأضافت أن الصين “تستخدم نفوذها الاقتصادي لخلق تبعيات استراتيجية وتعزيز نفوذها”، في تجاهل تام إلى أن ذلك ما كانت تفعله الولايات المتحدة  منذ عقود.

يتمثل أكبر مخاوف واشنطن في أنه مع ضمور قوتها الاقتصادية، فإن الروابط التجارية الحيوية لأوروبا مع الصين وروسيا ستشهد تحولاً في  مصالحها الاقتصادية – وفي نهاية المطاف ولاءاتها الأيديولوجية – نحو الشرق، بدلاً من البقاء بقوة في المعسكر الغربي، وهنا يطرح السؤال التالي، إلى أي مدى ستكون الولايات المتحدة مستعدة للمضي في ذلك وإيقافه؟. حتى الآن ، يبدو أنها جاهزة للغاية لجر الناتو إلى تكملة عسكرية للحرب الباردة، والمخاطرة بدفع العالم إلى حافة الإبادة النووية.