مجلة البعث الأسبوعية

“روح سمرقند” ترسم التحولات السياسية والاقتصادية

البعث الأسبوعية-هيفاء علي

عندما وصل الإسكندر الأكبر في عام 329 قبل الميلاد إلى مدينة ماراكاندا الصغديانية، التي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية الأخمينية، اندهش قائلاً: “كل ما سمعته عن سمرقند صحيح، إلا أنها أجمل مما كنت أتخيل.

بين 15-16 أيلول الحالي، حددت قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي جمعت اللاعبين الأقوياء في آسيا خارطة طريق جديدة لتقوية العالم متعدد الأقطاب. ومن وجهة نظر المحللين، إنه الوقت المناسب لتعقد قمة رؤساء دول منظمة شنغهاي للتعاون هذا العام في سمرقند، التي تعتبر مفترق الطرق النهائي لطريق الحرير منذ 2500 عام، خاصةً أن عالم الجغرافيا السياسية في حالة اضطراب خطير.

أوضح الرئيس الأوزبكي شوكت ميرزيوييف كيف يمكن لسمرقند الآن أن تصبح منبراً قادراً على توحيد الدول، والتوفيق بينها وبين أولويات السياسة الخارجية المختلفة. تاريخياً، كان ينظر الى العالم دائماً، من منظور شعار طريق الحرير، على أنه واحد وغير قابل للتجزئة، وليس منقسماً، لكن جوهر والظاهرة الفريدة في هذا الطريق هي “روح سمرقند”. وهنا ربط ميرزيوييف بين “روح سمرقند” و “روح شنغهاي” الأصلية لمنظمة شنغهاي للتعاون، والتي تم إنشاؤها في أوائل عام 2001، قبل أشهر قليلة من أحداث 11 أيلول، عندما انغمس العالم في صراع لا نهاية له بين عشية وضحاها.

خلال كل هذه السنوات، تطورت ثقافة منظمة شنغهاي للتعاون بطريقة نموذجية، حيث ركزت دول مجموعة شنغهاي الخمس في البداية على مكافحة الإرهاب، وتحديداً قبل أشهر من انتشار الحرب الأمريكية” العالمية المزعومة” على الإرهاب من أفغانستان إلى العراق وسورية وليبيا واليمن ومناطق آخرى. وهكذا على مر السنين، انتهى الأمر بـ “اللاءات الثلاث” الأولية -لا تحالف ولا مواجهة ولا استهداف لطرف ثالث -بتجهيز سيارة سريعة “عجلاتها الأربع” هي “السياسة والأمن والاقتصاد والعلوم الإنسانية”، مع استكمالها من خلال مبادرة التنمية العالمية، والتي تتناقض بشكل حاد مع أولويات الغرب المهيمن والمحرض على الحروب وصانعها.

إن الاستنتاج الرئيسي لقمة “سمرقند” هو أن الرئيس الصيني شي جين بينغ قدم الصين وروسيا معاً باعتبارهما “قوى عالمية مسؤولة” مصممة على ضمان ظهور التعددية القطبية، ورفض النظام التعسفي الذي تفرضه الولايات المتحدة ورؤيتها الأحادية القطب.  في حين وصف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف المحادثة الثنائية بين شي جين بينغ والرئيس فلاديمير بوتين بأنها “ممتازة”. فيما وجه الرئيس الروسي رسالة سيكون لها صدى في جميع أنحاء الجنوب عندما قال: “تم رسم التحولات الأساسية في السياسة والاقتصاد العالميين، ولا رجعة فيها”.

إيران.. نجمة سمرقند

كانت إيران الضيف نجمة سمرقند، حيث تم الترحيب بها رسمياً باعتبارها العضو التاسع في منظمة شنغهاي للتعاون، حيث أكد الرئيس الايراني إبراهيم رئيسي، قبل لقاء بوتين، على أن إيران لا تعترف بالعقوبات المفروضة على روسيا، وعلى تعزيز شراكتهما الاستراتيجية. وعلى الصعيد التجاري، سيزور طهران وفد كبير مؤلف من قادة 80 شركة روسية كبرى. هذا التقارب الكبير على كافة الصعد بين روسيا وإيران والصين، الدوافع الرئيسية الثلاثة لتكامل أوراسيا – يثير امتعاض ومخاوف الفريق الغربي ما يخلق تحدياً خطيراً للعبتهم الجغرافية الاقتصادية. لذلك سوف يزداد الضغط الجيو-سياسي ضد هذا الثلاثي أضعافاً مضاعفة.  ثم هناك الحسم الثلاثي الضخم لقمة سمرقند: روسيا والصين ومنغوليا، حيث أنشأ هذا الثلاثي خط أنابيب الغاز التابع لقوة سيبيريا 2، والربط البيني الذي سيتم بناؤه عبر منغوليا، ودور منغوليا المتزايد في تأمين ممر اتصال حاسم في مبادرة الحزام والطريق، لأن الصين لم تعد تستخدم ممر سيبيريا للتصدير إلى أوروبا بسبب العقوبات الغربية.

فيما يخص ملف الأسمدة، أشار بوتين الى أن الغرب هو الذي خلق المشاكل في الإمدادات الغذائية، وإمدادات الطاقة، ويحاول الآن حلها على حساب الدول الأكثر فقراً. ولفت إلى أن الدول الأوروبية كانت قوى استعمارية سابقة، ولا يزال لديها هذا النموذج من الفلسفة الاستعمارية، ولكن حان الوقت لتغيير سلوكها، لتصبح أكثر تحضراً.

وكان الرئيس الصيني قد أطلق مشروع مبادرة الحزام والطريق الطموح للصين رسمياً في أستانا – نور سلطان حالياً- قبل تسع سنوات، وسوف يبقى المفهوم الشامل للسياسة الخارجية الصينية لعقود قادمة، حيث يشكل تركيز مبادرة الحزام والطريق على التجارة والتواصل جزءاً من تطور آليات التعاون متعددة الأطراف لمنظمة شنغهاي للتعاون، والتي تجمع بين الدول التي تركز على التنمية الاقتصادية المستقلة عن “النظام القائم على القواعد” المهيمنة والغامضة، حتى الهند التي ينتمي إليها مودي مترددة في الاعتماد على الكتل الغربية.

تماسك الأهداف

أعطت سمرقند أيضاً مزيداً من الزخم للتكامل في إطار الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى المصممة روسياً، والتي تشمل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بعد أسبوعين فقط من المنتدى الاقتصادي الشرقي الذي عقد في فلاديفوستوك، على ساحل المحيط الهادئ، حول استراتيجية روسيا. بمعنى، إن أولوية موسكو داخل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي هي إقامة دولة اتحادية مع بيلاروسيا، التي يبدو أنها ستصبح عضواً جديداً في منظمة شنغهاي للتعاون قبل حلول عام 2024، إلى جانب تكامل أوثق مع مبادرة الحزام والطريق. من جانبها، دخلت صربيا وسنغافورة وإيران أيضاً في اتفاقيات تجارية مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وكان بوتين هو الذي اقترح الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى في عام 2015، ويجري تنقيحها لأن لجنة الاتحاد الاقتصادي الأوروبي، برئاسة سيرغي غلازييف، تصمم نظاماً مالياً جديداً يعتمد على الذهب والموارد الطبيعية ويتصدى لنظام “بريتون وودز”. وعندما يكون الإطار الجديد جاهزاً للاختبار، فمن المحتمل أن يكون المذيع الرئيسي الذي يبث الخبر هو منظمة شنغهاي للتعاون.

وهنا يتجلى التماسك الكامل للأهداف، وآليات التفاعل التي تم نشرها من قبل شراكة أوراسيا الكبرى، ومبادرة الحزام والطريق، والاتحاد الاقتصادي الأوروبي، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة “بريكس بلاس”، بالإضافة الى ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب. إنه صراع جبار لتوحيد كل هذه المنظمات ومراعاة الأولويات الجغرافية الاقتصادية لكل عضو وشريك مرتبط به، ولكن هذا بالضبط ما يحدث بسرعة البرق. وفي قمة سمرقند، تم التطرق الى الضرورات العملية من معالجة الاختناقات المحلية إلى إنشاء ممرات معقدة لأصحاب المصلحة المتعددين من القوقاز إلى آسيا الوسطى، ومن إيران إلى الهند، وكلها تمت مناقشتها في موائد مستديرة متعددة.

لقد تحققت النجاحات انطلاقاً من روسيا وإيران اللتان قدمتا تسويات مباشرة للروبل الروسي والريال الايراني، إلى روسيا والصين، اللتان رفعتا حجم مبادلاتهما التجارية بالروبل واليوان الى 20%. وليس هذا فحسب، فقد يتم قريباً إنشاء بورصة سلع شرقية في فلاديفوستوك لتسهيل تداول العقود الآجلة، والمشتقات مع منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فالصين هي بلا منازع أكبر دائن مستثمر في البنية التحتية لآسيا الوسطى، لذلك قد تكون أولويات بكين استيراد الغاز من تركمانستان وأوزبكستان، والنفط من كازاخستان.

إن بناء خط سكة حديد باكستان -أفغانستان -أوزباكستان (باكافوز) الذي تبلغ تكلفته 5 مليارات دولار، سينقل البضائع من آسيا الوسطى إلى المحيط الهندي في غضون ثلاثة أيام فقط بدلاً من 30 يوم،  كما سيربط خط السكة الحديد هذا بـ كازاخستان وخط السكة الحديد الصيني الذي يبلغ طوله 4380 كم، وهو بالفعل قيد الإنشاء، والذي يربط لانتشو بطشقند، أحد مشاريع مبادرة الحزام والطريق. كما أن  نور سلطان مهتمة أيضاً بخط سكة حديد تركمانستان -إيران -تركيا، الذي سيربط ميناء أكتاو على بحر قزوين بالخليج الفارسي والبحر الأبيض المتوسط.

اهلاً بكم في اللعبة الكبرى

تعرف روسيا والصين أن المشتبه بهم المعتادين، أي الغربيين، سينهارون. وفي هذا السياق، فقد حدث انقلاب فاشل في كازاخستان في بداية العام الجاري،  كما حدثت الاضطرابات في بدخشان، طاجيكستان، في شهر أيار 2022، والاضطرابات في كاراكال باكستان، وأوزبكستان، في حزيران الماضي، بالإضافة الى الاشتباكات الحدودية المستمرة بين طاجيكستان وقيرغيزستان، وقد اتفق الرئيسان في سمرقند على الأقل على وقف إطلاق النار وانسحاب القوات من حدودهما. ثم هناك أفغانستان المحررة مؤخراً من الاحتلال الأمريكي الذي خرج منها وهو يجر ذيول الخيبة والهزيمة، مع ما لا يقل عن 11 مقاطعة عبرها تنظيم “داعش” في خراسان وشركائه الطاجيك والأوزبكيين، حيث  قام الآلاف من الارهابيين في منطقة هارتلاند، في ولاية مينيسوتا الأمريكية بالرحلة إلى إدلب للانضمام الى صفوف “جبهة النصرة” ثم عادوا إلى أفغانستان بتشجيع من قبل الجوقة الغربية، التي تستخدم كل الحيل الممكنة لمضايقة وعزل روسيا عن آسيا الوسطى. لذلك يؤكد المحللون على ضرورة أن تكون روسيا والصين مستعدتان للانخراط في لعبة شديدة التعقيد حيث تقاتل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أوراسيا الموحدة، فيما تبقى تركيا في المنتصف. ولكن في ملاحظة أكثر إيجابية، أثبتت سمرقند أن هناك إجماعاً على الأقل بين جميع الجهات الفاعلة في المنظمات المؤسسية المختلفة على أن السيادة التكنولوجية ستحدد السيادة الأورو-آسيوية التي من المقرر أن تحل محل العولمة التي تقودها الولايات المتحدة.

بالإضافة الى ذلك، أدركت هذه القوى الفاعلة ان حقبة ماكيندر وسبيكمان قد ولت الى غير رجعة، عندما تم احتواء أوراسيا وتطويقها كي تتمكن القوى البحرية الغربية من ممارسة هيمنة كلية عليها، خلافاً للمصالح الوطنية لدول الجنوب. في مطلع القرن العشرين، ظهرت النظريتان الأساسيتان لعلم الجيوبوليتيك، “قلب العالم” و”حافة القلب”، حيث تأثر السير البريطاني هالفورد جون ماكيندر الذي صمم النظرية الأولى لـ “اللعبة الكبرى” بين روسيا القيصرية وبريطانيا العظمى، فيما تأثر العالم الأميركي نيكولاي سبيكمان الذي طور النظرية الثانية بظروف الحرب العالمية الثانية، والقلق من انتصار دول المحور (ألمانيا، إيطاليا واليابان) على الولايات المتحدة وحليفيها الاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى، وهكذا شكلت القوة البرية الشغل الشاغل للنظريتين.

من شبه المؤكد أن الوضع العالمي اختلف منذ أن صيغتا في النصف الأول من القرن العشرين، ومن جهة أخرى، لم يعر ماكيندر اهتماماً كبيراً للصين، في حين اعتبرها سبيكمان جزءاً من منطقة “الحافة”، تلك الملتصقة بالقلب. ولكن مع نمو الصين، تحرّك موقعها على الخريطة، ليشكل مركزاً جيوبوليتيكياً، لا جزءاً من منطقةٍ تابعة لمركز آخر.

الوضع الآن مختلف تماماً، فعلى الرغم من أن شراكة أوراسيا الكبرى تحظى بدعم كامل من الصين، إلا أن البلدين يعززان الترابط بين مشروعات مبادرة الحزام والطريق والاتحاد الاقتصادي الأوروبي، بينما تقوم منظمة شنغهاي للتعاون بتشكيل بيئة مشتركة نعم، هذا هو المشروع الحضاري، مشروع أوروبي آسيوي للقرن الحادي والعشرين وما بعده تحت رعاية “روح سمرقند”.