قمر الزمان علوش.. روائي من صقور الرواية التلفزيونية
تمّام بركات
غيب الموت الروائي والكاتب السوري “قمر الزمان علوش” مات في سريره كجد طيب، بين أهله وأحفاده، بعد أن أثقل المرض قلبه، الذي قرر أخيرا أن يتوقف عن النبض، تاركا لنتاجه الأدبي والفني، أن ينبض ليحيا أبدا.
علوش لن يطل مرة أخرى، وفي أوقات غير منتظمة، من صفحته الزرقاء، شاكرا من سأل عنه وأطمأن عن أحواله، لن يكتب مراث لأصدقاء مضوا، لكن أخر كلمات كتبها في قلب البياض، في الأول من تشرين الجاري، تنبئ بأحوال قلب هذا الرجل وطبيعة روحه، لمن لا يعرفه؛ كتب: “ياالله. عتبتك عندي أعلى من عتبات الكون جميعا، ولهذا سأظل أمينا ومخلصا لمشيئتك الكلية القدرة.
والمقال الذي كُتب عنه ليقرأه في حياته، ومن ثم يحدث ما كان يحدث معه، عند الاختلاف على رأي ما، من نقاش وجدل،لم يقُدر له ذلك،فتوقيت المنية، سبق توقيت النشر بيومين، لذا ارتأت أسرة المجلة، ألا يتحول المقال إلى “نعوة” تأتي على ذكر مناقب الراحل، بل أن يبقى على حاله، وفي هذا شيء من المواساة، برحيل كاتب سوري كبير، لا نستغرب أن يردّ على بعض ما ورد في المقال، من خلف طاولة الكتابة خاصته، في العالم الآخر.
أسرة التحرير.
الكاتب والروائي ونتاجه
بضعة أعمال درامية تلفزيونية في رصيده، لدى كاتب بدأ منذ عصر البارحة، أكثر منها، رغم تاريخه الطويل بالكتابة الدرامية، وعلاقته الشخصية والفريدة بالكلمة وبالمعنى، مذ كان صحفيا سبعينيات القرن، وهذا مرده إلى سبب جلي وواضح في تلك الأعمال، ومن عناوينها: (هوى بحري، الطويبي، طيور الشوك، نزار قباني، أسمهان) الكاتب والأديب قمر الزمان علوش، لا يرى فرقا جوهريا بين الأدب الروائي والأدب الدرامي، وهذا ما جعل نتاجه الدرامي جميلا، بارعا، حاضرا كمثال لامع، عن الذروة الذهبية التي تربعت عليها الدراما المحلية، وله ثقله في وجدان الجمهور المحلي والعربي، على عكس الكاتب الذي بدأ عصر البارحة، وقام بكتابة “مسلسلات” أكثر مما كتبه علوش الذي بدأ هو أيضا منذ نصف قرن فقط!
واحدة من أهم مميزات الأعمال الدرامية التي كتبها قمر الزمان علوش، الكاتب المولود في مدينة جبلة البحرية، اشتغاله المسلسل الدرامي، بطريقة الرواية التلفزيونية، التي يتقنها، بحكم أنه روائي أولا، ولهذا المنحى في عمله أسبابه عند علوش، الذي يقول في هذا الشأن: “من الناحية الفنية لكل جنس فنيته وخصوصيته، في الوقت نفسه كل جنس منهما يخدم الجنس الآخر، بمعنى أن التقنية الروائية يمكن أن تخدم التقنية الدرامية والعكس صحيح، في الرواية وفي المسلسل التلفزيوني يعتمد الكاتب على رسم المشهد والحوار لبناء عالمه الأدبي والفني، وبالتالي فالتقنيات هنا تخدم بعضها بعضاً، أما عن تفاصيل هذه التقنيات فهي مختلفة بشدة، في السيناريو التلفزيوني يهتم الكاتب بالتفاصيل الصغيرة؛ حيث يقوم بتجميعها وتركيبها ليعطي في النهاية الديناميكية للعمل الدرامي بما يخدم تطور الحدث والحكاية، وهنا يستخدم الصورة والكادر والعمق وحركة الممثلين التي تُعنى بتشكيل المشهد الدرامي، بينما يمكن اختزال كل ذلك في عبارة أو إشارة سريعة في الرواية”
وسواء كان العمل يتناول “سيرة ذاتية” كما في مسلسل “نزار قباني” –باسل الخطيب، 2005، أو “أسمهان” –شوقي الماجري-2008- أو يتناول أنواعا درامية أخرى، كمسلسل “هوى بحري”-باسل الخطيب-1997، وهو من نوع “رومانس-اجتماعي” فإن قمر الزمان علوش، يتعامل بحرص شديد، مع مفردات كل نوع،ففي دراما السيرة الذاتية، يشتغل علوش على إعادة صياغة الحدث أو الذروة، وفق رؤية أدبية فنية، لأبعاد الشخصية التي يرسم عوالمها، منطلقا من جوانياتها وعوالمها الداخلية، نحو مفازات دالة وكاشفة فيها وحولها، كمخزونها الثقافي والفكري، غناها الإنساني ورقيها الاجتماعي، سلوكها في الحياة العامة والخاصة، حتى أبسط التصرفات التي قد تصدر عنها.
هذا النحت إذا صح القول، لتفاصيل شخصيات مشهورة، يعرف معظم الناس قصتها، فيه تحد كبير يضعه علوش في حسبانه، فكيف سيلفت انتباه المشاهد، إلى حياة شخص أشهر من نار على راية كما يقال مثل “نزار قباني”؟ ما الذي يريد أن يقوله من تقديمه هذه الشخصية؟ وما الجديد الذي سيفاجئ الجمهور به في عرض سيرتها؟ وهل اشتغل عليها بجهد إبداعي خاص، أم أنه تعامل معها كمؤرخ؟ ويمكننا من خلال إلقاء نظرة على شخصية نزار قباني، كما قدمها علوش، أن نعرف ملمحا مهما من ملامح تجربته، وأن نجد أيضا أجوبة لما سبق.
ما سبق من أسئلة يجيب عنها العمل نفسه، فشخصية نزار قباني التي قدمتها قصائده،-دعونا مما قيل عنه- تظهره على الشكل التالي: إنسان أصيل نهض متمرداً على كل الأفكار البالية، والتقاليد المورثة الصدئة، وشاعر كان يميّز بدقة بين الأغصان الخضراء والأغصان الزائفة، يذهب إلى اقصى درجات التحرر عندما يتعلق ذلك بمصلحة البلاد، ولكنّه يحرص على الجوهر في تمييز الملمح الأهم للصراع الذي يخوضه أبناء أمته، محارب ببزة أنيقة، لا تلين له عريكة، وهو يهاجم أدب التطبيع وأصحابه؛ إذا نحن لسنا أمام أكثر من شخصية للرجل، بل هي شخصية الشاعر بكل عوالمها، والتي من بعض صفاتها الفروسية.
علوش ذهب نحو خيار مختلف في تقديم شخصية صاحب: “يا وطني الحزينْ/حولتني بلحظةٍ من شاعرٍ يكتب الحب والحنينْ/لشاعرٍ يكتب بالسكينْ” فقدمه بكونه الشاعر الرومانسي، صاحب الغراميات المفرطة، حتى وهو في لحظة انفعال شعري سياسي، أو اجتماعي ناقد، فثمة دائما امرأة أو أكثر، بحالة ذوبان غرامي، ما يطغى على موقفه وما يريد أن يقول؛علوش قام بالتركيز على الجانب “الرومانسي” من شخصية نزار، وقام بالتقليل من أهمية جوانب أخرى تفوقها أهمية، مثل: مواقف نزار الوطنية، رأيه بمسرحية”اللامعقول” كما يصف اتفاقية غزّة -أريحا، والتي صارت لاحقاً تُعرف باتفاقية أوسلو، وغيرها، هذا الجانب خفت في رواية قمر، وظهر جانب الشاعر “العشيّقّ”، الدنجوان الساحر والجذاب.
وسواء اتفقنا مع وجهة نظر الكاتب أم العكس، فإن هذا لا يلغيأن العمل حقق نجاحا كبيرا، وكان من أكثر الأعمال الدرامية متابعة محليا وعربيا، فالكاتب نجح ببناء شخصية مكتملة، من جهة الشكل والمضمون، جعلت الجمهور مشدودا لها، ومنتظرا لما ستفعله حلقة وراء حلقة، وفق بناء درامي محكم، وسبك محنك للأحداث،أيضا جاء الحوار رشيقا، بعيدا عن الخطابة والمجانية، قصص جانبية ممتعة، ذروات مشغول عليها بخبرة ودراية، تفوق فيها على التحدي الصعب، في تقديم شخصية مشهورة، وهي أساسا حاضرة في الذاكرة، ليست بعيدة في التاريخ، بل إنها معاصرة، ومؤثرة بقوة أيضا، وهذا الملمح القائم على اللعب الإبداعي على التفاصيل، هو من الملامح الهامة في تجربته.
لم يفتتح قمر الزمان علوش، عصر الرواية التلفزيونية، إلا أنه كان من الكتّاب المؤثرين في بزوغ نجمها، على درجة واحدة مع الكاتب المصري الكبير “أسامة أنور عكاشة” وإن كان النوع الذي قدمه علوش مختلفا في الخطاب، لكنه متفق في الشكل، الذي يراه أيضا أنه هو المضمون.
بطاقة شخصية: “قمر الزمان علوش” ولد في مدينة “جبلة” في عام 1948، عمل الكاتب في الصحافة السورية منذ عام 1974 حتى أواسط التسعينيات، بعد ذلك انتقل إلى الكتابة الدرامية في التلفزيون، فكتب عدة مسلسلات طويلة هامة منها “هوى بحري”، و”الطويبي”، و”طيور الشوك”، و “نزار قباني” و”أسمهان”، كما حوّل عدة روايات عالمية إلى أعمال فنية منها “بيت الأرواح” لإيزابيل الليندي، و”البؤساء” لفيكتور هيغو، وذلك بالتعاون مع أفضل المخرجين في الدراما السورية أمثال “باسل الخطيب” و”أيمن زيدان” و”شوقي الماجري”، ورواية “بريد تائه” هي روايته الثانية بعد “هوى بحري”، وتليها رواية “لحظة رحيل” تحت الطبع.