مجلة البعث الأسبوعية

السيناريوهات القريبة والبعيدة بعد تفجير جسر القرم  

البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد:

من المعلوم أن جسر كيرتش الذي يربط شبه جزيرة القرم برياً مع روسيا يعدّ مشروعاً أسطورياً حققته روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين بعد إعادة شبه الجزيرة إلى روسيا، كما أنه صرحٌ عالي التقنية وشديد التحصين، ويكتسب أهميته الاستراتيجية في الوقت الراهن من كونه خط إمداد للقوات الروسية في عمليتها الخاصة في أوكرانيا، ويعدّ المدخل البحري الوحيد الفاصل بين البحر الأسود وبحر آزوف الذي أصبح اليوم عملياً بحراً داخلياً روسياً بعد الاستفتاءات في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك ومقاطعتي زابوروجيه وخيرسون، في حين كان يسعى حلف “الناتو” إلى استخدامه كنقطة ضغط بحرية على الروس.

وقد لوحظ بُعيد العمل الإرهابي الذي استهدف الجسر يوم الجمعة الفائت أن نظام كييف النازي لم يجرؤ على نسبة العملية الإرهابية إليه بشكل مباشر، لكن في الوقت ذاته لاحظت القيادة الروسية منشورات وبيانات بعض المؤسسات في كييف التي حملت تلميحاتٍ ساخرة أو مُباركة للعملية، أو تربط بين ما حدث للطراد موسكوفا وبين العملية على الجسر، وهذا ما عدّته القيادة الروسية نوعاً من الاستفزاز والاعتراف الرسمي بالمسؤولية عن الحادث.

مع ذلك، حاولت حكومة كييف خلط الأوراق والادعاء أن الشاحنة من روسيا ملمّحة إلى وجود صراعات ضمن أجهزة المؤسستين العسكرية والأمنية في روسيا والشركات الأمنية الخاصة، ومعتبرةً إيّاها خارجة عن سيطرة الدولة “على حدّ زعمها”، وعلى العكس فإن هذا الادعاء لا يدع المجال للشك في ضلوعها بالعملية الإرهابية.

وإذا بحثنا في دوافع نظام الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي لارتكاب مثل هذه “الحماقة السياسية”، نجد أنه يحاول توجيه ردّ إلى روسيا على ما حققته من انتصارات وما نفذته من ضربات قاصمة وخطواتٍ استراتيجية خلال عمليتها الخاصة، وآخرها استفتاءات الضم في المناطق الأربع، حيث أراد زيلنسكي الإيحاء بقدرته على عزل شبه جزيرة القرم عن روسيا، أو القول بإمكانية فصلها وفقاً “لأحلامه” لمنع الروس من الدفاع عنها في حال مهاجمته لها بحراً.

كذلك يحمل هذا الاعتداء رسالة أخرى من النظام في كييف، ألا وهي استفزاز روسيا إلى الحد الأقصى، لجرّها إلى أقصى مستويات التصعيد، بحيث يجبر الناتو على التدخل في المعركة بشكل مباشر.

من جهة أخرى، أراد نظام كييف توجيه رسالة بأنهم يريدون الانتقال إلى موقف آمن قبل بدء برد الشتاء القارس في أوروبا، من خلال محاولة زعزعة سيطرة روسيا على القرم، وزيادة زخم الاعتداءات الأوكرانية بشكل مفاجئ ومباغت، عبر تطوّر خطير بالإقدام على هذه العملية الإرهابية التي تستهدف ما وراء الخطوط الروسية والبنية التحتية اللوجستية والوطنية في الداخل الروسي.

أما بالنسبة إلى الجانب الروسي فقد خمّن الكثير من المحللين السياسيين والخبراء العسكريين بأنه سيستخدم السلاح النووي التكتيكي بعد الحادثة مباشرةً، وبالأخص مع الدعم الغربي غير المحدود لقوات كييف بمختلف أنواع الأسلحة، والبعيدة المدى منها، على الرغم من التحذيرات الروسية بإيقاف مثل تلك الخطوات التي لن تفيد في شيء سوى إطالة أمد الصراع، إضافةً إلى تقديم الدعم الاستخباري من “الناتو” والغرب وتدريب القوات بشكل مكشوف ومعلن لا لُبس فيه ولا غموض، وجميعها أمور تعطي الحق لروسيا بتطبيق بنود العقيدة النووية.

لكن ما كان لافتاً التروي والحكمة من الجانب الروسي، فالإعلان عن التحقيق وانتظار النتائج يعني انتظار خطوات شرعية لبناء المواقف عليها دون أي تسرّع أو إطلاق للاتهامات جزافاً، والجسر يمكن إصلاحه بعدة ساعات أو عدة أيام كما أن سكة الحديد لم تتعطل أو حتى حركة النقل البحري، والعمل إرهابي بلا شك لكنه لا يشكّل اختراقاً لعمل الأجهزة الأمنية الروسية، فقد حدثت العملية بعبوة واستغل المنفذون وجود صهاريج الوقود ليس إلا.

وبعد أن أثبتت موسكو ضلوع نظام كييف واستخباراته بالعملية توعّدت بردّ قاسٍ يتناسب مع حجم العملية، مع توعّدها باتخاذ إجراءات أقسى في حال التكرار.

في حين ذهب الكثير من المحللين إلى اعتبار العملية انعطافة خطيرة في شكل الصراع ومسبّباً حقيقياً لتغيير الاستراتيجية الروسية، وربما تحويل العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا إلى حرب شاملة مع وجود الكثير من الدلائل والمؤشرات على ضلوع القوى الغربية برعاية أمريكية وبريطانية في الحادثة، ما يعني تشديد الضربات الروسية وزيادة وتيرتها، بحيث يتمّ استهداف البنى التحتية الأوكرانية وخاصةً سكك الحديد لأنها عصب النقل والإمداد، بل توقعوا أيضاً استهداف روسيا مراكز صنع قرار النظام الأوكراني المتمثلة بمراكز الجيش والمخابرات والقصر الرئاسي.

ومن خلال مراقبة مجريات الأمور فإنّ التكهنات الكثيرة لجهة تطوّر العملية الخاصة للروس نحو استهداف مراكز القرار والسلطة الأوكرانية، تبقى مستبعدة حالياً، حتى لو كانت نسبتها متقدمة كثيراً عن نسبة استعمال السلاح النووي التكتيكي، والسبب أيضاً يدخل ضمن اعتماد القيادة الروسية مناورة متوازنة، هي حتماً لن تتخطاها وتتجاوزها وتنجرّ إلى التصرّف الانتقامي بردّة فعل العشوائية وغير مدروسة، فاستهداف مراكز القرار والسلطة الأوكرانية سيكون مرحلة متقدمة ولاحقة، وهي مدرجة ضمن بنود خطة المعركة أو العملية الخاصة الروسية، ولكنها لن تحصل قبل استنفاد كل إمكانيات الحل السياسي أو المفاوضات أو التسوية وضمن الشروط الروسية حصراً، التي ما زال الرئيس فلاديمير بوتين يأمل من خلالها خضوع الرئيس زيلينسكي إليها بمجرد أن يضعف ويفشل في الثبات في هذه المواجهة الصعبة، أو بمجرد أن يظهر إلى العلن التململ واليأس الغربي وخاصةً الأوروبي من إكمال هذه المواجهة المدمّرة لهم قبل غيرهم.

ولوحظ كيف كان الردّ الروسي بُعيد العملية، فعلى الرغم من عنف وغزارة قصف الروس للعاصمة كييف وبعض المناطق، لكنّ القصف كان مجرّد رسالة للنظام الأوكراني وحلفائه يُفهم منها الآتي: “لم نقصف مراكز صنع القرار هذه المرة، على الرغم من وصول صواريخنا إلى مناطق قريبة من مقرّات الاستخبارات أو قصر زيلينسكي أو أحد المقرات الدبلوماسية الألمانية وغيرها، لكننا لن نتوانى عن قصفها بلا رحمة في حال تكرار ما أقدمتم عليه”.

وعلى الصعيد العسكري فإن هذه العملية الإرهابية هي عملية صغيرة تمّ تهويلها من البعض أو حتى الذهاب إلى أنها تمثل “فقداناً للسيطرة من الروس”، لكن ما هو موجود على أرض الواقع يشير وبدقة إلى أن الخطة الموضوعة من الجانب الروسي تسير على قدم وساق من دون أن تتأثر بأي تعثرات ميدانية هنا أو هناك، وبمجرد اكتمال التعبئة الجزئية ووصول وحداتهم إلى العدد المناسب الذي يفوق 300 ألف عسكري مع كامل عتادهم، سيكونون جاهزين لتنفيذ عمل عسكري واسع، سيكلل مباشرة باستعادة المناطق التي استعادها نظام كييف مؤخراً، مع المضي قدماً لتوسيع سيطرتهم على كامل الساحل الأوكراني على البحر الأسود حتى أوديسا، أو إخضاع كييف لشروط التهدئة.