علامات استفهام حول خيارات رأس المال الخاص الاستثمارية
عبد اللطيف عباس شعبان
كثيراً ما تم التعويل خلال العقود الماضية على الدور الهام لرأس المال الخاص في مجالات النهوض بالاقتصاد الوطني، وأعْطِيَ القطاع الخاص مفتاح الباب وأمسِكَ القلم الأخضر في أكثر من ميدان اقتصادي، وقد اعترف رجالاته بذلك عقب قرارات مؤتمر سابق للصناعيين، ولكن الدور المنشود لرجالات القطاع الخاص لم يتوافق مع الموعود منهم، أكان ذلك يعود لحجة أصحاب رأس المال أنفسهم (فعاليات القطاع الخاص على تنوعها وتعددها)، من معاناتهم الكبيرة من ندرة وصعوبة تأمين متطلباتهم الكثيرة، والتي يرون أن تأمين الكثير منها يقع على عاتق الجهات الرسمية، متغافلين عن عدم شرعية احتجاجهم حيناً، وضعف أو عدم أحقيتهم في العديد من طلباتهم أحياناً، وتغافل بعضهم عن الالتزام بما هو مطلوب منه مالياً أو إدارياً، أو كمية أو نوعية أو مناطقية استثماره، ومحاذير تغليب استثماراتهم المحلية في المجالات الخدمية على حساب الاستثمارات الإنتاجية، وتكثيف استثماراتهم في تصنيع العديد من المواد الاستهلاكية (حلوى الأطفال من البطاطا وغيرها والدعايات المكثفة لها) واستيراد العديد من السلع غير الضرورية وخاصة حاجيات الأطفال والنساء، التي يغري منظرها باستهلاكها، وعدد غير قليل من الرأسماليين قاموا بترحيل نسبة كبيرة من أموالهم إلى الاستثمار في الخارج، أو إيداعها مصرفياً، رغم علمهم المسبق، بل وتلمسهم مخاطر ذلك بين مكان وزمان.
ندرة توفر مستلزمات الإنتاج وغلاء أسعارها المتتابع دفع الكثير من المنتجين (أصحاب رأس المال) للتحول باتجاه استيراد المادة بدلاً من إنتاجها، وقد تأكد ذلك خلال مجريات اللقاء الأخير الذي تم بين مدير الجمارك والتجار، والذي تضمن النقاش في إجراءات الاستيراد والتصدير ومشكلاته، حيث طرح التجار ما لديهم من إشكاليات ومعوقات، ليجيبهم مدير عام الجمارك بالتفصيل عن مكافحة التهريب ومهام المديرية بملاحقة المهربات حتى ضمن الأسواق، واعتراضات التجار على مكافحة التهريب لم تكن حول الآلية بقدر ما كانت عن سببها الأساس المتمثل بمنع الاستيراد، ليجمع التجار على ضرورة فتح باب الاستيراد كحل وحيد لمعالجة التهريب، بل ذهب البعض ليطلب من الجمارك أن تتوسط لهم لدى وزارة الاقتصاد لفتح باب الاستيراد! فيما لوح الكثير منهم إلى أن التهريب باقٍ طالما منع الاستيراد مستمر، وصرح بعضهم أن بيع المهربات في أي سوبر ماركت مربحة للتاجر حتى لو خالفته الجمارك فالمخالفة لن تشكل رادعاً.
رغم تكثيف الحوار حول استثمار الأموال في الاستيراد والتسهيلات المطلوبة بعيداً عن الاستثمار في الإنتاج إلا أنه تخلل اللقاء مقترحات تضمنت دعم وتسهيل استيراد المواد الأولية، إضافة للسماح باستيراد كافة المواد للصناعي دون تقييد، ما يؤكد وجود رغبة باستثمارات إنتاجية تعوض عن الاستيراد، إذ من المجمع عليه أن تحسن الوضع الاقتصادي مربوط بتحسن الإنتاج، ولكن المؤسف أن نسبة كبيرة من الميزانية العامة (أموال الحكومة) مخصصة للجوانب الاستهلاكية والجوانب الخدمية، والحال نفسها بالنسبة لاستثمارات رأس مال القطاع الخاص ورأس مال القطاع الأهلي الادخاري، وبالتالي فالوضع الاقتصادي في حالة تدهور مشهود بدلاً من التحسن المنشود، نتيجة تدهور توفر مقومات الإنتاج بشكل متسارع ومخيف أكان بسبب الندرة أو الغلاء، وخاصة في قطاعي الزراعة والثروة الحيوانية والدواجن، فاستهلاك أسرة موظف عادي لبيضة دجاج واحدة في اليوم يتطلب تخصيص سدس راتبه تقريبا لشراء صحن بيض (30 بيضة بسعر 17 ألف ل.س مع توقع الزيادة) في الشهر.
حقيقة الأمر، لقد أظهر واقع الحال ضعف نجاح الحكومات المتعاقبة في تحقيق استثمار المال الخاص وطنياً بشكل عام، وضعف نسبة الاستثمار الإنتاجي منه بشكل خاص في مجمل ما تم استثماره، فقصور دور القطاع الخاص تلاقى مع بعض قصور الجهات العامة، وبعض التنسيق بينهما لم يثمر عن تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، فحجة السلطات أن القطاع الخاص لا يلتزم بها هو مطلوب منه، وحجة القطاع الخاص أن الجهات الرسمية لا تلتزم بما تحتاجه وتتطلبه استثماراته من بنى تحتية وتسهيلات إدارية، وحقيقة الأمر كلا الحالتين قائمتين، فخلال السنوات الأخيرة لم يوافق رئيس غرفة الصناعة على عقد مؤتمراً صناعياً جديداً، محتجاً بأن مقررات المؤتمر الصناعي السابق لم تنفذ، رغم الوعود البراقة التي رافقت وأعقبت انعقاده.
إن الحاجة ماسة جداً لسياسة اقتصادية جديدة تؤسس لمزيد من الاستثمارات الإنتاجية في القطاعين العام والخاص، خلافاً للسياسة الاقتصادية السابقة التي حدَّت كثيراً من التوسع في استثمارات القطاع العام ولم تفلح في تحفيز الاستثمار في القطاع الخاص، ومن الإنصاف القول إن رأس المال الخاص لا يغادر البلد حال أتيح له استثمارات داخلية، والاستدراك خبر من التمادي.
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية